عبد الرحيم عاشر «أديب مراكشي» يشبه مدينته

ذاق مرارة اليتم صغيرا وأصبح ابنا مشاعا للجميع

TT

كل مراكش تعرف عبد الرحيم عاشر. شخص يشبه مدينته. يمكن أن يتحدث مع والي (المحافظ) المدينة، ثم مع نادل في مقهى صغيرة في أحد المداشر البعيدة. يتبادل النكات مع رجال الشرطة، وباعة ساحة جامع الفنا. يتناول قهوة الصباح مع أحد المثقفين من زوار المدينة، ووجبة الغداء مع أجنبي يقيم في أحد أزقة المدينة العتيقة، قد يكون له موعد مع رجل أعمال في المساء، يتحدث خلاله عن كل شيء إلا الأعمال، ويلتقي أحد الممثلين العالميين في فندق المامونية الباذخ. ويتناول العشاء مع صديق في مطعم يبيع المأكولات الشعبية.

يضحك ثم يضحك. ربما يضحك حتى في نومه. يقول لك بلكنته المحببة «مراكش مدينة سبعة رجال.. وأنا الثامن». يظل يركض النهار بأكمله في أحياء المدينة، وعندما يأتي المساء يعود إلى أسرته الصغيرة، لمشاهدة قناة واحدة تبث موسيقى وأشرطة هندية. ذلك هو ولعه وشغفه وحبه الجارف: الهنود وموسيقاهم.

تحول عبد الرحيم عاشر إلى «ظاهرة» في مراكش، بل في المغرب برمته. هو شاعر وقاص وروائي، ويترأس «نادي الصحافة» بمراكش، وهو النادي الذي استطاع، في ظرف وجيز، أن ينظم أنشطة استضاف خلالها وجوها بارزة من عالم السياسة والإعلام والفن والاقتصاد وحقوق الإنسان، من المغرب والخارج، بينهم أحمد بن بيلا، الرئيس الجزائري الأسبق، ونور الدين الصايل، مدير المركز السينمائي المغربي، وأحمد حرزني، رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان المغربي.

ولد عاشر في أزقة ودروب المدينة القديمة، وذاق مرارة اليتم صغيرا، إذ فقد والدته، وهو لم يكمل أربعين يوما من عمره، فتطوعت نساء الحي لإرضاعه، ومن يومها «أصبح عاشر ابنا مشاعا للجميع» كما كتب عنه الإعلامي إسماعيل احريملة، فصارت «كل بيوت الحي بيته، وكل الأمهات أمه، وكل الأقران إخوته».

عن طفولته، قال عاشر، لـ«الشرق الأوسط»: «عملت في معظم المهن المعروفة، نادلا في المقاهي، وقصابا وحدادا وبائع خضراوات، وقادني شغفي بالسينما إلى بيع البيض أمام قاعة (مبروكة)، القريبة من ساحة جامع الفنا، حيث كنت أبيع بعض البيض وألتهم معظمه. في هذه الفترة توطدت علاقتي بالأفلام الهندية، حتى لقب (الشاعر) أخذته جراء عشقي للأفلام الهندية، التي غالبا ما يكون أحد أبطالها طفلا يتيما، في مثل حالتي. كنت في صغري مبهورا بأبطال السينما الهندية، وكنت أقول لأصدقائي إني سألتقيهم حين أكبر، وذلك ما حصل إذ التقيت كثيرا منهم، مثل أميتاب باتشان وأمير خان وياشوبرا وشامي كابور، بل أجريت مع بعضهم حوارات صحافية. ولعل من أهم حسنات عشقي للأفلام الهندية، وأثرها في حياتي، أنه أسهم في نمو ملكة الخيال في داخلي، الشيء الذي دفعني إلى كتابة الشعر والقصص والرواية».

وعلى الرغم من ظروف اليتم، تابع عاشر مساره الدراسي بنجاح، حتى حصل على الباكالوريا (الثانوية العامة)، ثم على شهادة الليسانس، قبل أن يعمل في مجال التعليم، ويشارك في دورات تكوينية في العمل الصحافي، مكنته من أن يعمل مراسلا لعدد من الصحف المحلية.

أصدر عددا من الكتب، موزعة ما بين الشعر والقصة والرواية، وكتب الشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري، في تقديمه لـ«سقف الموت»: «عبد الرحيم عاشر عصامي واجه ظروفا مأساوية منذ صباه، فبعد وفاة الوالدين عاش حياة قلقة، لكنه عوض أن تفت في عضده شحذت عزيمته فتسلح بالصبر والتحدي».

وعن تجربته مع الكتابة الأدبية، يقول عاشر: «حين أصدرت أول أعمالي (زمن الوهم)، كنت نكرة بين الكتاب. وكان أن جاءتني فكرة توزيع كتبي بنفسي. وقتها، هاجمني البعض، وقالوا إني أهين الكتب وأقلل من شأن الإبداع والمبدعين، حتى أن بعض الجمعيات أصدرت بيانات ضدي. لكن شيئا فشيئا، كسبت تعاطف ودعم البعض، فواصلت توزيع كتبي، حتى نجحت الفكرة».

يقترح عبد الرحيم عاشر حلا طريفا لمعضلة نشر وتوزيع الكتاب الأدبي، حلا ميدانيا قاده إلى الطواف بكتبه من مدينة إلى أخرى، ليبيعها بنفسه في المقاهي والمطاعم ومقرات الشركات والإدارات في مبادرة طريفة لتقريب الأدب من الناس. كاتب استغنى عن وساطة الناشر والموزع، تصل مبيعاته إلى سقف ثلاثة آلاف نسخة، ويعتبر نفسه «الموزع الوحيد في المغرب الذي لا يعاني مشكلة مرتجعات».

لكن توزيع الكتب في المقاهي لا يخلو من متاعب. خلال أحداث 16 مايو (أيار) 2003 الإرهابية، التي هزت الدار البيضاء، أثار دخول عاشر إلى أحد مقاهي المدينة، قاصدا المراحيض مستعجلا، لقضاء حاجته، متأبطا حقيبة كبيرة، تبدو مليئة وثقيلة بمحتوياتها، شك وريبة رجال الأمن، الذين أحاطوا به، مستفسرين عن محتويات الحقيبة، وإن كانت متفجرات، وإن كان إرهابيا يسعى إلى تفجير المكان، فأجابهم، في استهزاء: «نعم أنا إرهابي»، ثم مد يده إلى داخل حقيبته، فأخرج محتوياتها، مخاطبا الجميع، في سخرية: «هذه قنبلة اسمها (سقف الموت)، وهذا مدفع اسمه (في فمه حجة الكلام)، وهذا صاروخ اسمه (المخادعون)، وهذا رصاص اسمه (الغارقون)». وكلها أسماء كتبه.

ويرى الإعلامي إسماعيل احريملة أن المثير في شخصية عاشر هو إصراره على ربط صداقات متعددة، مع مختلف الشرائح الاجتماعية، وكأنه بذلك يصر على كسر الحواجز بين الطبقات الاجتماعية، انتقاما للحظات من عمره ذاق خلالها مرارة اليتم والفقر.

إذا أردت أن تكتشف مراكش، فعليك أن تكتشفها مع عبد الرحيم عاشر. لن تكتشفها فقط، بل ستضحك كثيرا.