جمعة الأكراد: سفرات للطبيعة وأعراس على السفوح وبين الوديان

المرأة الكردية تستمد ألوان أزيائها من جمال البرية الخلابة

أكراد يدبكون تحت المطر في الطريق بين أربيل والسليمانية
TT

ارتباط الأكراد بالطبيعة أمر لا يشبههم فيه أي شعب آخر، فعلى الرغم من المدن الحضارية والمتطورة في إقليم كردستان العراق والتي يعيش فيها غالبية أكراد العراق، فإنهم يعبرون بروح شغوفة عن انتمائهم لطبيعتهم الأم، ولا يختلف بذلك سكان المدن أو الأرياف، بل تتساوى جميع فئات المجتمع الكردي، سواء كانوا من الفقراء أو الأغنياء، متعلمين أو غير متعلمين، نساء ورجالا، ومهما كانت مهنهم، وهذا ينطبق في الغالب على جميع أبناء القومية الكردية، وخاصة في الشرق الأوسط.

ولعل الطريقة الشائعة لدى الأكراد للتعبير عن هذا الانتماء هو خروجهم كل يوم جمعة إلى الجبال والوديان، حيث تجتمع عدة عوائل، أو عائلة كبيرة، تحت ظل شجرة أو فوق بساط من العشب الأخضر المطرز بألوان من ورود البابونغ الصفراء وشقائق النعمان الحمراء، ويفضل أن يكون الموقع المختار لقضاء نهار العطلة الأسبوعية بأكمله قرب نهر أو جدول أو ساقية أو عين مياه صافية جدا، إذ تكون هذه المياه قد انحدرت توا من قمة جبل ذاب ثلجه قبل قليل فتأتي باردة تكفي لتبريد ثمرة رقي (بطيخ) كبيرة وقناني أو علب المرطبات، هناك يضعون المناقل لتأجيج النار وشي أنواع من اللحوم وبطرق سائدة، أو ينشئون من الصخور والأحجار الموجودة حولهم موقدا لغرض تحضير طعامهم الطازج.

إلا أن طقوس هذه السفرة الأسبوعية لا تقتصر على تحضير الطعام وتناوله، إذ تعد هذه الفقرة من أبسط مفردات النزهة، الأهم في برنامج سفرة العائلة الكردية إلى البرية هو الرقص (الدبكة الكردية) على أنغام الموسيقى الجبلية، فبالنسبة للمجاميع الكبيرة من العوائل فإنها في الغالب تستقدم معها عازفي طبل ومزمار (الزرنة حسب التسمية الكردية) وعادة ما يكون هؤلاء العازفون من أفراد العوائل ذاتها التي تعبر عن احتفائها البهيج بالحياة. أما العوائل الصغيرة فإنها تفضل أن تأتي بجهاز صوتي وعدد من الأسطوانات المدمجة (سي دي) لعدد من المطربين الأكراد لترقص (تدبك) على موسيقاهم.

السائق الذي أخذنا إلى براري السليمانية، حيث الطريق إلى واحدة من أجمل مناطق طبيعة كردستان العراق، والتي تسمى ( قره داغ) يشير إلى حشود العوائل التي ترقص الدبكة الكردية بمجاميع متفرقة، يقول «بما أن الجو طيب اليوم ومشمس فإننا سنجد صعوبة في شق الطريق بين حشود السيارات التي يبحث أصحابها عن مكان مناسب ليكون موضع نزهتهم».

ميديا، شابة كردية وهي طالبة في جامعة السليمانية، توضح لـ«الشرق الأوسط» أنه «لا شيء يمنع أو يقف أمام أي عائلة كردية للخروج لتلك النزهة الأسبوعية فهي متنفسنا لأن نعبر عن التصاقنا بالطبيعة، وللهروب من صخب الحياة اليومية وتعقيداتها ولنتنفس هواء طبيعيا نقيا وننعش أنظارنا بهذه المناظر الخلابة التي لا تشبهها أي مناظر سوى ما هو موجود في اللوحات التشكيلية المتخيلة، لكننا هنا في الحقيقة ولسنا في الخيال». وتضيف «مجموعتنا تضم عائلتنا وعائلة شقيقي الأكبر وعوائل عمي وأبنائهم وزوجاتهم، وعائلة خالي وجدتي وجدي الذي يجيد العزف على الطبل بينما ابن خالي يجيد العزف على الزرنة (المزمار الكردي)، ونحن منذ منتصف كل أسبوع نحدد المنطقة التي سنذهب إليها يوم الجمعة إذ نسعى إلى التنوع الجغرافي فعموم مناطق كردستان جميلة وساحرة».

وتشير ميديا إلى أن «هذه السفرات العائلية الأسبوعية هي عادة تقليدية متوارثة لدى الأكراد كونهم يعتبرون الجبل هو الذي يؤويهم ويدافع عنهم ويمنحهم خيراته، ولعل العقود الطويلة للثورة الكردية هي التي كرست هذا الاعتقاد، وخاصة أن قرى وعشائر بأكملها كانت تلجأ إلى الجبال هربا من بطش القوات الحكومية التي لم تتوان عن قصف القرى البسيطة بواسطة الطائرات المتطورة»، يعلو صوت طبل أبو ميديا وزرنة ابن خالها، وسرعان ما تلتحم الأيدي ببعضها، وتتقارب الأكتاف في حلقة تعبر عن التلاحم والترابط والقوة، ومع أنغام الموسيقى الكردية التقليدية تبدأ الأجساد بتلبية إحساسها بالموسيقى فتتمايل متقدمة ومتراجعة في حركة تشبه موجات الريح الجبلية.

ينعطف بنا السائق بسيارته يمينا وعبر طريق يتوسط حدائق برية ملونة بالورود متجها صوب (جمي رازان) وهو مصيف يقع فوق مرتفع عند أعتاب جبل وعلى حافة وادي يفصل بين جبلين بشكل حاد. وبينما يلوح لنا عن قرب مجرى مياه تتدفق بقوة، تتناهى إلى مسامعنا أصوات موسيقى عالية، عند سفح منبسط بعض الشيء صفت كراسي على شكل مستطيل واسع ووسطه حلقة دبكة كردية راقصة تضم عشرات النساء والرجال ومن جميع الأعمار «هذه حفلة عرس كردي» يوضح السائق، أي عرس هذا وسط هذه البرية؟ نتساءل، لكن الإجابة تأتينا واضحة من كاكه (الأخ باللغة الكردية) سردار الذي طلبنا منه الموافقة على تصوير حفلة العرس، يوافق (لكن بشرط عدم نشر الصور في الجريدة) ينبهنا بعد أن يخبره السائق بأنني صحافي. وسردار هو شقيق العريس، حيث كان يشرف على ترتيبات هذا الفرح التلقائي، بينما تتسع حلقة الدبكة الكردية وسط المستطيل المحدد بالكراسي التي بدت خالية لانشغال الجميع في الرقص، يقول «غالبية أعراسنا تتم في الطبيعة، سواء في الريف أو في المدن، نقيم الفرح هنا، ندبك (نرقص) على أنغام موسيقانا، نضيف المدعوين وغير المدعوين، فمن حق أي شخص المشاركة بالدبكة وتناول طعام الغداء والحلويات، وأنتم الآن ضيوفنا، ومن لا يقبل دعوتنا نعتبر أنه لا يحبنا»، وحتى نتخلص من اتهامه بعدم حبنا لهم كان لا بد من المشاركة في عرسهم، حيث أبلى صديقنا السائق بلاء حسنا في الدبكة الكردية التي رقصها من أعماق روحه وكما يستوجب في مثل هذه المناسبات، بل إنه رقص وكأنه كان في انتظار مثل هذه المناسبة لإطلاق مشاعره في ذلك اليوم الربيعي المشمس.

ويوضح سردار معلقا على الدبكة الكردية، قائلا «هناك أنواع من الدبكات الكردية التي تؤدى حسب الموسيقى والغناء المصاحب لها، وغالبا ما تسمى الدبكات بأسماء المناطق التي تنتمي إليها فهناك الدبكة البهدنانية، والسورانية، ودبكة شيخاني، والاختلاف بين هذه الدبكات يكمن في حركة الأكتاف أو طريقة تشابك الأيدي بين مؤدي الدبكة»، مشيرا إلى أن «بعض الشباب يدخلون اليوم موسيقى سريعة وإن كانت كردية لتحديث بعض الدبكات التقليدية».

الكرديات منحن المشهد بأزيائهن التقليدية ذات الألوان الزاهية خلفية ملونة بالأحمر والأزرق والأخضر والأصفر..ألوان مستمدة من الطبيعة ذاتها، ويعرف عن المرأة الكردية عشقها للألوان البهيجة مبتعدة عن الألوان الداكنة، ألوان مشرقة مثلما الشمس التي تمنح الحياة بريقا أكثر حدة.

تقول مصممة الأزياء الكردية المعروفة دلكش مراد، إن «الزي التقليدي الذي ترتديه المرأة الكردية يسمى بصورة عامة (كراس) ويعني الفستان، أما الصديري فيطلق عليه (الليلك)، والشروال الطويل يسمى (أول كراس)، وهذه المكونات العامة للزي التقليدي للمرأة الكردية في مدينتنا السليمانية، وهناك تسميات أخرى ومختلفة في مناطق كردستان، بل إن هناك إضافات على الزي التقليدي مثل غطاء الرأس الذي يختلف شكله وتصميمه من منطقة إلى أخرى، وهو بصورة عامة يسمى (سرو كلاو)».

دلكش التي أقامت عروضا للزي الكردي في مدن مختلفة من العالم، تعتبر من أبرز مصممات الزي الكردي حيث نقلته من وظيفته التقليدية إلى المعاصرة وحاز إعجاب نساء كثيرات حتى وإن لم يكن كرديات، تقول «كان ولا يزال الزي التقليدي للمرأة الكردية مهمته محدودة إذ ترتديه المرأة في المناسبات السعيدة كالأعراس مثلا أو الحفلات أو الأعياد القومية مثل عيد نوروز، وما من امرأة كردية إلا وتحتفظ بعدد من الزي الكردي التقليدي، وهناك أكثر من 13 زيا تقليديا كرديا مختلفا في شكله وألوانه»، موضحة «لكنني عملت على وضع تصاميم معاصرة لهذه الأزياء ونقلتها من محدودية استخدامها إلى سعة انتشارها حيث تقشفت باستخدام المواد وصار الزي خفيفا ويظهر أنوثة المرأة مما جعل الكرديات، وحتى غير الكرديات، الشابات منهن خاصة لارتداء أزيائي حتى في الحياة العامة، أي أنها لا تقتصر باستخدامه في حفلات الزواج أو المناسبات فحسب، خاصة إذا ما عرفنا أن المرأة الكردية شديدة الاعتزاز، مثلما الرجل الكردي، بهويتها القومية التي تظهرها من خلال أزيائها التقليدية المميزة».

وعن نوعية الأقمشة وألوانها المستخدمة في الزي التقليدي للمرأة الكردية تشرح مصممة الأزياء الكردية دلكش، قائلة «في السابق كانت المرأة الكردية، مثل أمي أو جدتي، تستخدم ما هو متوفر من أنواع الأقمشة النسائية لخياطة الـ(جلي كردي) وهو الاسم الشائع للزي التقليدي الكردي، أما اليوم ومع تطور الحياة وارتفاع القدرة الشرائية للمواطن في إقليم كردستان فإن أسعار الأقمشة المستخدمة ونوعيتها غالية جدا، خاصة الحرير والساتان والدانتيل والقطيفة، وهناك أقمشة في إقليم كردستان يبلغ سعر المتر الواحد منها 1800 دولار أميركي، والزي كله يكلف ما بين خمسة إلى أكثر من عشرة آلاف دولار ولنا أن نتصور أن لكل امرأة أكثر من زي تقليدي كونها لا تعيد ارتداء الزي في المناسبات المتقاربة زمنيا، في حين أن النساء الكبيرات عمرا يلجأن إلى الأقمشة ذات التكلفة الأقل».

وتشير دلكش إلى أن «المرأة الكردية ميالة إلى الألوان الزاهية ولا تستثني أي لون، وما هو شائع أن المرأة كانت، وما زالت تستخدم لونا واحدا لعموم مفردات الزي كالأحمر أو الأزرق أو الأصفر.. وهكذا، لكنني تعمدت أن أجعل الزي التقليدي الكردي ملونا، أي يضم عدة ألوان فتراه يتألف من الأزرق والأحمر والأصفر وهذا ما انتشر مؤخرا في إقليم كردستان وخارجه»، منوهة بأن «عمل الخياطين والخياطات لهذا الزي مزدهر في مدن إقليم كردستان، والأكثر شهرة هم الخياطون وليست الخياطات».

حلقة الدبكة الكردية اتسعت في هذا العرس، والمحتفلون يزدادون حماسا فيبدعون حركات جديدة في أدائهم، تقول فيان، ابنة عم العروس «بعد أن ننتهي من هنا سنذهب إلى الفندق حيث حجزنا قاعة للاحتفال المسائي بالعرس، سنغير ملابسنا، نرتدي أزياء أخرى ذات ألوان مختلفة، وسنبقى ندبك (نرقص) حتى ما بعد منتصف الليل فنحن نستغل مناسبات الفرح لنطلق مشاعرنا بحيوية». نسألها مازحين عما سيفعلونه لو أن الجو تغير وأمطر الآن، تبتسم وتقول بإصرار «سنبقى في دبكتنا،، وسيكون ذلك أجمل تحت المطر الذي يعني بالنسبة لنا بشارة خير وتفاؤل بأن العروسين سيعيشان في سعادة».