جبل «سان ميشيل» حائر بين مصالح فرنسا وشروط اليونيسكو

طواحين هواء حول الموقع الذي يقصده 3 ملايين سائح سنويا تثير خلافا بين الطرفين

منظر فريد يقصده 3 ملايين سائح سنوياً
TT

رفضت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم (اليونيسكو) بشكل قاطع، أي مشروع لإقامة مراوح هوائية عملاقة حول جبل «سان ميشيل»، أحد أبرز المواقع السياحية غرب فرنسا. وهددت لجنة خاصة، في اجتماع لها في مقر المنظمة في باريس، بسحب الجبل من لائحة التراث العالمي للبشرية في حال الإصرار على زرع المراوح المولدة للطاقة في الفضاء البحري الواسع المفتوح المحيط به.

وأبلغت اللجنة السلطات الفرنسية بضرورة الوقف الفوري للمشاريع المقترحة أو التي تم إقرارها، وبالعكس من ذلك، تعزيز حماية موقع جبل «سان ميشيل» المصنف تراثا للبشرية منذ 1979، وترك الفضاء الفريد المحيط به خاليا من أي إنشاء واضح للعيان ويعترض النظر من بعيد، أي من مسافة تزيد على 40 كيلومترا. كما طلبت اليونيسكو من فرنسا دعوة وفد من المنظمة لزيارة الجبل والاطلاع، ميدانيا، على الفضاء البحري المحيط به. وهي ليست المرة الأولى التي تعرب فيها اليونيسكو عن قلقها من مشاريع قد تشوه منظر الجبل، خصوصا بعدما منحت الدولة، قبل 5 سنوات، ترخيصا لمشروع بإقامة 3 مراوح، أو طواحين هواء، ذات ارتفاع غير محدد وأذرع معدنية عملاقة. لكن التنفيذ لم يأخذ طريقه بسبب الاعتراضات التي تقدمت بها جمعيات الحفاظ على البيئة. وهناك مشروع ثان نال الموافقة، قبل شهرين، لتشييد 4 طواحين يبلغ ارتفاع كل منها 140 مترا.

لماذا هذا الاهتمام العالمي الاستثنائي بالجبل الفرنسي؟ وما الذي يميزه عن غيره من جبال أوروبا وهضابها التي لا تعد ولا تحصى؟ الجواب يكمن في أن الجبل هو عبارة عن مرتفع يقع وسط جزيرة صخرية قريبة من الساحل الغربي. وفي القرن الثامن الميلادي تم تشييد دير فوق قمة جبل «سان ميشيل». لكنه ليس أول ولن يكون آخر دير فوق قمة. لكن فرادته تأتي من ظاهرة طبيعية هي المد والجزر، فتغمر مياه البحر جزيرته في الليل وتقطعها عن اليابسة، ثم تنحسر عنها في النهار وتسمح للسياح بالسير على الأقدام من الساحل الفرنسي إلى الجبل وزيارة المباني التاريخية المشيدة في الجزيرة.

هذه المواصفات هي التي تأتي بأكثر من 3 ملايين زائر، كل عام، للتمتع بمنظر الجبل الذي ضمته اليونيسكو إلى لائحتها التي تتعهد فيها بحماية وصيانة أهم المواقع التي نفذتها عبقرية الإنسان وأبدعتها مخيلته، عبر العصور. فقد كانت مباني الجبل قد تعرضت للتآكل مع نهايات القرن الثامن عشر. وكانت أول أعمال صيانة حقيقية قد جرت في القرن التاسع عشر. وفي عام 1862 صنفت الدولة الفرنسية جبل «سان ميشيل» ثراثا وطنيا لا يجوز تناقل ملكيته أو المساس بمنشآته من دون الرجوع إلى الخبراء. وعشية القرن العشرين، تم نصب منحوتة للقديس الذي يحمل الجبل اسمه، أنجزها النحات فريمييه، تنتهي بسهم عال.

وفي العقود التالية تعرض الموقع لتدخلات كثيرة تفتقد إلى الحكمة. فقد شقت البلدية طريقا يقود إلى الجبل، كان الماء يغمره نصف اليوم. كما حاول آخرون استصلاح أراضيه البحرية على الطريقة المتبعة في خلجان هولندا. لكن العدو الأول للموقع كان السياح، الذين أخذوا يتوافدون بالملايين لمشاهدة ظاهرة المد والجزر التي تقربهم من الجبل نهارا وتنئيهم عنه ليلا، حين تغمر مياه البحر المساحة المحيطة به بارتفاع 13 مترا. وكان من الطبيعي أن تنشأ، حول حركة السياحة، نشاطات تابعة لها، للتنقلات ولبيع التذكارات والهدايا ولتقديم مختلف أنواع الخدمات السكنية والطعامية والتموينية والترفيهية. ومن الجدير بالذكر أن كل هذه المصالح تتقاسمها 3 عائلات من ورثة السكان القدامى للجبل. باستثناء الدير والكنيسة العائدين لممتلكات الدولة واللذين يرتفعان بمسافة 170 مترا عن سطح البحر. وكانت إدارة السكك الحديد قد سعت إلى تسيير قطار يقود إلى الجبل. لكن الفكرة ماتت مع دق طبول الحرب العالمية الثانية. ولما وصل الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران إلى سدة الحكم، أمر بإزالة كل النتوءات المحيطة بالجبل وإلغاء الطريق الذي يتطفل عليه.

لقد ظل الدير مهجورا على مدى عقود طوال، لكن الحركة عادت إليه قبل 10 سنوات. فقد قرر عدد من رهبان دير في القدس الانتقال إلى الجبل الفرنسي والتعبد في ديره العالي. ورغم الطابع الديني الذي يلف الموقع، فإن الأهالي ما زالوا يتناقلون عنه الأساطير والخرافات، ومنها أن الجبل انتقل من المحيط الأطلسي، قبالة مقاطعة بريتاني، وسط غرب فرنسا، ثم حدثت تغيرات جغرافية أشبه بالمعجزة التي جاءت به إلى مقاطعة النورماندي، شمال غربي البلاد وحطت به في بحر المانش الذي يفصل فرنسا عن الجزر البريطانية. وتشير الوقائع إلى سخف تلك المعتقدات، لأن ما حدث هو أن الملك غييوم الأول أمر بتوسيع حدود منطقة النورماندي، جنوبا، ليصبح نهر «كريسنون» حدا فاصلا بينها وبين بريتاني. ولهذا السبب ما زال سكان هذه المقاطعة الأخيرة يطالبون بالجبل ويكتبون فيه الأشعار ويتوارثون الأناشيد الشعبية التي تتفاءل بأن يستعيد عقله ويعود إليهم.