تونس: تجارة عقود البيع المكتوبة باليد وتحف التراث الشعبي تعيش أفضل أيامها

محمد شرف الدين لـ«الشرق الأوسط»: بعض الأدلاء السياحيين يجرمون بحق التاريخ لترويج السلع

محمد شرف الدين يتحدث لأحد الزبائن («الشرق الأوسط»)
TT

لم يكن يخطر ببال أحد أن تكون الأوراق المكتوبة بخط اليد، بغض النظر عن قيمتها التاريخية والاجتماعية والثقافية، ذات قيمة مادية، وتفتح محلات خاصة لبيعها، لا سيما عقود الزواج وعقود الملكية القديمة، بعد أن أخذ الحاسوب على شاشته وفي ملفاته بفضل الإدارة الجديدة مهمة كتابة وحفظ تلك العقود.

وأغرب ما لاحظته «الشرق الأوسط» في بعض محلات بيع التحف والأدوات والأشياء القديمة، لوحات بخط اليد مكتوبة بالريشة أو بقلم حبر، وعلمنا أن السياح يقبلون عليها بشغف، على الرغم من أنها لا تمثل قيمة تاريخية كما هو حال المخطوطات النادرة، لكنها تتميز بطابعها الجمالي، وهي خاصية الحرف العربي، الذي كان مسؤول منح التراخيص الصحافية في فيينا، هولمت ويلكزاك، يحدثني طويلا عنه، وكنت أظن في بادئ الأمر أنه يجاملني، وقد شعر بذلك، فأكد لي آنذاك أنه ليس في حاجة لقول ما لا يؤمن به.

محل الاستغراب ليس لوحات الخط العربي بفروعه الجمالية المتنوعة، لا سيما إذا كتبت به آيات بينات من الذكر الحكيم، لكن كون الكتابة بخط اليد العادي الذي لا يخضع لمعايير الخط التي يتم تعلمها على يد خطاطين مهرة تدربوا بدورهم على فن الخط العربي.

وقال بائع عقود بيع وعقود زواج قديمة، يدعى محمد شرف الدين، لـ«الشرق الأوسط»: «يأتي سياح ويطلبون هذه العقود فيضعونها في إطارات خشبية ويستخدمونها كلوحات فنية». وتابع: «حتى التونسيون والعرب يفعلون ذلك».

ويبلغ سعر الورقة الواحدة (25 دينارا تونسيا) أي (5.12 يورو) وعلق على ذلك قائلا: «هذا عقد بيع، لذلك سعره مرتفع بعض الشيء». وأكد أن «جميع عقود البيع أو عقود الزواج المعروضة للبيع استنفدت أغراضها، فهي تعود إلى نحو 150 عاما مضت وأصحابها ماتوا أو تحولت ملكية ما كان عندهم لغيرهم، وفي الأحوال كلها هي موثقة في السجل العقاري والمؤسسات ذات الاختصاص».

ولم تكن العقود وحدها المعروضة للبيع، بل دفاتر القضاة السابقين، الذين كانوا يوثقون تلك العقود في سجلات خاصة، وأصبحت اليوم من اختصاص البلديات والمحاكم والإدارات المختلفة.

ويبيع محمد شرف الدين العقود المتوافرة لديه، التي يشتريها، كما أخبرنا، من أصحابها، ويسعى في جمعها من المدن والقرى والأرياف. وبعض العقود وضعها بنفسه في إطارات خشبية مبلورة.

وإلى جانب بيع العقود القديمة يقوم شرف الدين ببيع الأعمال اليدوية القديمة، وأدوات (حلي) تستخدمها القرويات لشد ملابسهن التي هي عبارة عن قطعة قماش كبيرة يتم طيها بأشكال عجيبة حتى تظهر كما لو كانت فستانا فلكلوريا بديعا «بعض القرويات يأتين للمدينة لشراء الغزل وليس لديهن أحيانا المال الكافي فيبعن أخلتهن (جمع خلال، وتُشد به منطقة الصدر على اليمين والشمال وغالبا ما تربط بين زوجي الخلال سلسلة، سواء من الفضة أو الذهب) لتوفير المبلغ المطلوب».

كان من بين التحف المعروضة في المحل، اليد ذات الأصابع الخمس، التي نجدها في قطع الحلي التونسي، وفي لوحات تتعمد بعضها إظهار صورة العين في راحة اليد، فالبعض يعتقد (وهو الغالب) أن اليد لإبطال العين فيقال باللهجة التونسية «خمسة وخميسة في عين إبليس» ويشار لمن يتلفظ بقول يستشف منه الحسد بأصابع اليد الخمس، ثلاث مرات وأحيانا أكثر (حسب حماس من تم ترويعه بقول أو فعل) وأحيانا يقال له «خمسة في عينيك» والبعض يستحضر ذلك كله في مقام واحد.

ويعيد محمد شرف الدين الاحتفاء باليد وأصابعها الخمس إلى المعتقدات السابقة للإسلام التي ظلت راسخة في الأذهان وفي الممارسات اليومية بزعم أن لها نفعا، وتستخدم لدفع العين، وهناك أشكال أخرى لذلك، ومنها صورة السمكة أو مجسمها، واليد، وقرن الغزال، وهناك متن شعبي في ذلك وهو «حوتة (سمكة) وخمسة (اليد بأصابعها الخمس من الذهب أو الفضة) وقرن غزال». وبالتالي هو اعتقاد شعبي يعتبر من الرواسب المتوارثة التي لا تقف على أي سند ديني أو علمي.

وكان من بين الأشياء التي عثرنا عليها في ذلك المكان الأعجوبة أباريق، وصناديق لحفظ الحلي، ومدقات نحاسية يطلق عليها في تونس «المهراس» ولوحات معاصرة قال صاحب المحل إن فتاة تركتها بغرض تسويقها، وهي لوحات من صور الإبداع الشبابي التي تعتمد التجسيد بدل الرسم النباتي أو الزيتي. وهو إبداع يعتبر خروجا عن المألوف، لكنه جاء في زمن لم يعد الفن فيه يمثل أولوية في سلم الحاجات الآنية، وتحول إلى ترف في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة.