سوق السليمانية.. تبدأ بالألوان وتنتهي بالموسيقى

«الشرق الأوسط» تستكشف خبايا أقدم وأكبر أسواق المدينة الكردية

جانب من سوق البلدية الكبيرة في السليمانية («الشرق الأوسط»)
TT

الضياع في سوق السليمانية القديمة، والكبيرة، هو أحد أجمل المتع التي يصادفها الزائر لثاني مدن إقليم كردستان العراق. لك أن تترك نفسك تتيه بين أزقة ومداخل ومخارج هذه السوق التي تتجاوز عمرها المائة عام، بل إن هناك من يعتقد بأن إنشائها تم مع بناء مدينة السليمانية.

هناك من يسميها بسوق قيصرية النقيب، وهناك من يطلق عليها تسمية القيصرية، وتسمية القيصرية في العراق تطلق على أي سوق مسقفة بألواح معدنية (القصدير)، والبعض يسميها سوق الخضار عندما يريد أن يتسوق الخضار منه، ويمكن تسميتها بسوق الملابس أو سوق المواد الكهربائية أو المنزلية، أو سوق القصابين، وهكذا، فالأمر يعتمد على الزائر لها وماذا يريد أن يتبضعه من مجموعة الأسواق التي تشكل بمجموعها السوق الكبيرة، إذ إن هذه السوق هي عبارة عن مجموعة أسواق متشابكة ومتصلة مع بعضها. لكن التسمية الحقيقية، وباللغة الكردية، لهذه السوق هي «به ر به له ديه كه» وتعني «سوق البلدية» حسب الفنان الكردي هندرين حكمت، وهو من أهالي مدينة السليمانية، ولخاله العشاب ياسين علي عبد، يحمل شهادة عليا في الكيمياء، محل كبير في سوق الخفاف التي تقع على مقربة من سوق البلدية وتضم أعشابا طبية مختلفة، بل يعد هذا المحل بمثابة عيادة أعشاب، حيث إن «هناك أعشابا طبية لكل مرض»، حسب ما يؤكده عبد ذاته.

ويستطرد حكمت، وهو واحد من أبرز عازفي آلة السنطور في العراق، متحدثا عن السوق الكبيرة قائلا لـ«الشرق الأوسط» إن «السوق الكبيرة أخذت اسمها من البلدية التي كانت دائرتها تقع بجانب السوق تماما»، مشيرا إلى أن «سوق القماش أو البزازين تتصل بالسوق الكبيرة من جهتها الشمالية حيث قامت بمكان (سينما كويزه) الصيفية في الخمسينات من القرن الماضي». تحتل سوق البلدية مساحة واسعة في قلب المدينة التجاري، بل لنا أن نقول بأن مركز هذه المدينة هو عبارة عن مجموعة أسواق متصلة، حتى الأسواق التي بنيت حديثا فهي تتصل بالسوق الكبيرة (البلدية) في تأكيد لدور وأهمية هذه السوق التي تؤدي وظيفة تجارية اقتصادية مهمة منذ أكثر من قرن. فعندما نترك شارع السالم أهم الشوارع التجارية الحديثة في المدينة الذي هو ذاته عبارة عن سوق تمتد بامتداد أكبر شوارع السليمانية تقريبا، وندلف باتجاه شارع مولوي الذي يعد من أكبر أسواق أجهزة الهواتف الجوالة (الموبايل) ومكاتب الصيرفة، سنكون قد اقتربنا من سوق القيصرية، أو سوق البلدية، هناك من منتصف شارع مولوي سنطل من جسر يشرف على السوق الكبيرة راصدين زحام الأصوات والألوان والوجوه والبضائع التي تتداخل في مشهد بانورامي يتدفق منذ الصباح الباكر وحتى المساء وبلا انقطاع.

ومثلما ميزة غالبية الأسواق القديمة والكبيرة، فإن المداخل مشرعة ومغرية لدخول السوق التي يجدر بالزائر إليها ألا يستعين بأي دليل، وألا يراجع أي خرائط أو أن يضع خططا مسبقة، بل عليه أن يفعل مثلما فعلت «الشرق الأوسط»، أن يتيه في تشعباتها، وألا يسأل عن محل أو سوق معينة من مجموع الأسواق التي تتصل وتتفرع من السوق الكبيرة، بل أن يمارس فعل الاكتشاف بنفسه، فمع كل خطوة هناك اكتشافات جديدة تحمل سحر المفاجأة لما تحتويه هذه السوق من غرائب، وغرائبيتها تكمن في أنواع البضائع المعروضة في متاجرها، بضائع كنا نتخيل أن بعضها قد غاب عن الوجود وأنها لم تصمد بوجه كل ما هو معاصر ومتطور، لكنها حاضرة هنا وبقوة، صناعات يدوية، نسيجية، أو خشبية، إذ يبدع النجارون نقوشا على جسد الخشب ليحولوها إلى أعمال فنية ذات نسخة واحدة، حدادون حرفيون مهرة، دكاكين تغرق في ألوان أنواع من الخرز والترتر الملون والبراق الذي يخطف الأنظار، دكاكين لخيوط ملونة وأقمشة براقة بألوان الذهب والفضة والكريستال.

أول ما تنفتح عليه السوق هو سوق الخضار، واجهة عريضة لدكاكين متراصة تكشف عن بانوراما لونية لأنواع الخضار النظيفة والطازجة المعروضة في واجهاتها، طماطة (بندورة) حمراء، خيار وفول (باقلاء) وورق عنب وسلق وسبانخ بالأخضر الداكن، شجر بالأخضر الفاتح، بطاطا بالبني، ثم تأتي مجموعة الفاكهة متسلسلة بألوانها البرتقالي والمشمشي (من المشمش) والتفاح الأبيض والأحمر والأخضر، والعنب بنوعيه الأحمر والأخضر، وألوان التمور حسب أنواعها، وبين هذه وتلك هناك التوت المقطوف توا من أشجاره، والجوز والأخضر وثمة ثمار برية تنمو نبتتها أو أشجارها فوق قمم الجبال.

على أن عرض كل هذه الطيبات من الخضار والفواكه يتم وسط صخب أصوات الباعة الذين ينادون لغواية الناس لشراء ما يعرضون، ويبدو تداخل الأصوات المنطلقة من حناجر جبلية غليظة مهما لتأثيث المشهد ومنحه حيوية من نوع آخر، وإلا فلا يمكن تصور سوق السليمانية القديمة بلا هذا الضجيج الممتع.

قبل أن نغادر سوق الخضار سننتبه إلى بناية قديمة تبرز شرفتها المزخرفة بالخشب وشبابيكها التي تفصح عن ترف مضى وتحولت إلى بناء متداع مثل شاهد على زمن باذخ بالحيوية، يقول هندرين «هذه البناية كانت فندقا أو خانا يحط فيه تجار بغداد رحالهم، لكنه تعرض للإهمال فتحول لفترة من الزمن إلى (جراج) سيارات، واليوم تحول إلى ما يشبه سوق الغزل بجانب الرصافة من بغداد حيث تباع فيه الطيور والحيوانات الداجنة ولا يزال صيادو طائر (القبج) الجبلي يجتمعون هناك لبيع ما يصطادونه من هذه الطيور التي يصعب اقتناصها بين صخور الجبال وشعاب الوديان، بل إن صيد هذه الطيور وقنصها محرم في منطقة بارزان التي تعد محمية طبيعية، كما يجتمع هنا رواد صراع طيور القبج الشبيهة بصراع الديكة، إذ إن هناك حلبات لصراع هذه الطيور والديكة أيضا».

كلما تعمقنا في سبر غور هذه السوق فسوف نجد أنفسنا نتورط في التيه، أسواق تتفرع إلى أخرى، وكأننا في متاهة يصعب الخروج منها، بل متاهة نختارها بمحض إرادتنا، على يسارنا يمضي الطريق إلى سوق القصابين، لكننا نتجه إلى سوق تغرينا ألوانها، سوق الأقمشة التي نتنفس فيها رائحة الغزول والأقمشة المصفوفة إلى بعضها كعرض تشكيلي معتنى به «هذه هي سوق الأقمشة أو البزازين»، يوضح هندرين، منوها إلى أنه «قام في مكان (سينما كويزه الصيفي) التي كان يقوم قبالتها (حمام القشلة الشعبي) حيث كان والدي حكمت (وهو موسيقي كان عازفا بفريق موسيقى الجيش) وعمي في طفولتهما يصعدان فوق سطح هذا الحمام لمشاهدة أفلام (طرزان) التي تعرض في السينما الصيفية المفتوحة، مجانا»، لكن الحمام هو الآخر تهدم وقامت مكانه سوق «الدبو» التي تكثر فيها محلات بيع الأحذية الرجالية والنسائية.

في وسط السوق سننتبه إلى وجود مساحة خالية، أو كما يطلقون عليها تسمية «الحوض اليابس» الذي يفصل بين سوق الذهب وسوق العطارين وأشهرهم «حجي عارف» الذي لا يزال موجودا في دكانه، ومن هناك تتفرع السوق لتأخذ الزائر إلى سوقي الحدادين والنجارين الحرفيين.

ندخل إلى سوق صاغة الذهب، يبهرنا بريق الذهب الأصفر ولمعان مشغولاته التي أبدعها هؤلاء الحرفيون الذين تجدهم مستغرقين بصهر هذا المعدن النبيل والاشتغال عليه لتحويله إلى قطع فنية فريدة «كون كل قطعة لا تشبه الأخرى، فهذه صياغة يدوية وليست صياغة معامل، تلك التي تعتمد على إنتاج عشرات القطع المتشابهة عن طريق صب الذهب بقوالب معينة ومعدة مسبقا»، كما يوضح هوراس صاحب محل كبير (صاغة هوراس للمجوهرات) الذي يطل على شارع كاوة، وحول قطع المجوهرات التي عرضها يقول «غالبية هذه القطع نأتي بها من سوق الذهب في دبي، وهناك مجوهرات لعلامات معروفة مثل (بولغاري) و(داماس) و(لازورديي)، فهناك من تجذبه هذه القطع، بينما هناك من يفضل الذهب المشغول محليا خاصة في تجهيز الأعراس، فالعروس الكردية تحب الذهب المحلي لكونه عيار (21) قيراطا، وصياغته تتناسب مع الزي التقليدي الكردي».

ويضيف شقيقه عباس قائلا لـ«الشرق الأوسط» إن «الشابات عادة يبحثن عما هو جديد من قطع المجوهرات، وخاصة تلك القطع التي يشاهدنها على شاشات التلفزيون مثل (فرفشة) لـ(داماس)، وهناك قطع مجوهرات تحمل أسماء فنانات عربيات مثل نانسي عجرم أو إليسا»، مشيرا إلى أن «زبائننا من السيدات لا يقتصرن على الكرديات فقط بل هناك عراقيات من مناطق مختلفة من البلد يأتين إلينا لشراء مجوهراتهن».

اكتشافاتنا تتضح أكثر كلما تركنا أنفسنا نمضي مع التيه الذي توفره أجواء وتشعبات سوق البلدية الكبيرة في السليمانية، نهبط سلالم لنجد أنفسنا وسط سوق العطور، ومن ثم سوق الملابس والإكسسوارات النسائية، وحسب شيرمين التي كانت تقوم بجولة تسوق مع إحدى صديقاتها، فإن «كل ما نحتاج إليه سنجده هنا في هذه السوق من عطور وكريمات (مفردة كريم) وملابس وإكسسوارات سنجده هنا»، مشيرة إلى أن «مراكز التسوق الحديثة (المولات) تعرض بضائع محددة ولا تمنحنا الفرصة للعثور على ما نبتغيه».

لا نستطيع القول إننا تركنا السوق لو عدنا إلى شارع مولوي الملتصق أصلا بالسوق الكبيرة، وهناك يبدع أصحاب متاجر الجوز واللوز والفستق وأنواع من الحلويات المحلية كالسجق الأبيض والأحمر بعرض بضاعتهم لجذب المشترين، وعلى مقربة من هذه المحلات نعرج يمينا نحو أفضل صانع حلويات في السليمانية «توفيق الحلواجي» الذي تجاوزت شهرته حدود العراق لإجادته في صنع حلوى «المن والسلوى» أو «من السما» كما يسميها العراقيون، وأنواع مختلفة من السجق، وغير بعيد عن محل «الحلواجي» يقوم محل «أوسكار» الذي يضم روائع الموسيقى والغناء العربي والكردي، ونوادر التسجيلات لأغاني حسن زيرك، ومحمد ماملي، وعلي مردان، وأم كلثوم، وعبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وفيروز، إلى جانب الأغاني الكردية الهورامية والكلاسيكية والمعاصرة.