الرقص المعاصر يدخل المهرجانات اللبنانية بعرض مبهر

انهار «برج بابل» وتفرقت الألسن في «قصر بيت الدين»

مشاهد من عرض «بابل كلمات» الذي قدم في «بيت الدين»
TT

عرض بديع لعشاق الرقص المعاصر في «مهرجانات بيت الدين»، كان مساء أول من أمس. فقد قدم المصمم المغربي البلجيكي سيدي العربي الشرقاوي، عمله «بابل كلمات» المستوحى من قصة برج بابل، الذي أراد مشيدوه الارتفاع به إلى السماء، فأصابتهم اللعنة وتفرقت ألسنتهم، قبل أن يتيهوا في الأرض. لعنة تفرق الألسن ونعمتها، أقام عليها الشرقاوي بناءه الفني الراقص، جاعلا من أجساد راقصيه الـ13، الآتين من جنسيات مختلفة، وأديان عديدة، وأكثر من عشر لغات، أداة طيعة لعمل ينضح إنسانية ونبضا. افتتح العرض الذي ابتكر عام 2010، يوم أول من أمس في «بيت الدين»، بشرح من إحدى الراقصات حول أهمية اللغة، وتحديدا لغة الأيدي، قبل أن تقرع الطبول، إيقاعات يابانية تختلط بأغنيات متعددة الأتنيات. الفرقة الموسيقية التي اعتلت الخشبة يضاء عليها وهي مخبأة وراء غلالة تجعل وجودها ضبابيا، لكن مفعولها الموسيقي والغنائي سحري. فالموسيقى في هذا العرض عنصر أساسي، تماما كما النص الذي يضفي طرافة وألقا، حين تتناثر كلمات المؤدين شارحة المبهم مضيئة على الجوهر.

الديكور المتقشف وشديد الذكاء ليس أقل أهمية، فالخشبة تبقى فارغة إلا من الراقصين وأشكال هندسية لمكعبات مفرغة إلا من حوافها وأشكال أخرى من متوازيات السطوح، بأبعاد ثلاثية تشبه علبا عارية، لا أضلاع لها. على وقع إيقاعات ضرب الطبل، وغناء بلغات متعددة، تتصارع الأجساد، برقص محكم، يجعل المنصة مرسومة لوحاتها بعناية. فمرة يتصارع الراقصون داخل مكعب، مرة أخرى يتحول المستطيل إلى ممر ومعبر، ومرات يصبح بيتا أو زنزانة. الصراع الإنساني للفرد مع ذاته أو مع الآخرين، حاضر، كما التساؤلات الحادة حول الانتماء والهوية.

أحد الراقصين يسجن في مكعب فارغ الأضلاع، يحاول الخروج منه بخبط الرأس، وربط القدمين وضرب الكتفين بحيطان غير موجودة، الطبل يقرع بقوة كلما ارتطم الرجل بالجدار الوهمي في ما يشبه موسيقى تصويرية حية، وفي غفلة من الرجل والجمهور، يعبر شخص آخر الزنزانة متجاوزا جدرانها الوهمية بينما يبقى الأول يصارع جدران الزنزانة التي لا يراها أحد غيره.

«بابل كلمات» هو عمل فيه الكثير من اللعب على الحقيقي والمتخيل في حياة الكائن البشري. وعلى الرغم من أن هذا العرض جاد وعميق يخلط بين التمثيل والرقص والموسيقى والغناء، فإن فيه من الطرافة ما يجعله فكاهيا ومضحكا أيضا. فثمة شخصيات آتية من المستقبل، مثل الراقصة التي تسير بعد أن تدير مفتاحها، بينما آخرون آتون من الماضي أو الريف البعيد. «ليس المهم ما حصل أو سيحصل وإنما أن نحب الراهن الذي نعيش»، تقول إحدى الراقصات. تتداخل المشاهد، المقتطعة من أجواء متباينة، فمرة نحن في مطار غربي يستجوب المسافرين ويفتشهم كل بحسب جنسيته وأصوله، مرة أخرى مع عاشقين، أحدهما لا يزال في طوره الحيواني الأول، بينما تتجمد المرأة ببرود عارم كناية عن التحضر الذي بدل من طبيعتها، مرة أخرى نجد أنفسنا في هرج ومرج بين من اختلطت لغاتهم وصعب تواصلهم وباتوا في حالة صراع جسدي، ومرة جديدة ننتقل إلى مناخات وجدانية تشبه حلقات الذكر الصوفية. ليس مهما في هذا العمل الذي يتشارك فيه الشرقاوي تصميما مع الراقص والفنان الفرنسي - البلجيكي داميان جاليه، أن نبقى في المكان، بل الأصل أن نسافر في الأزمنة والثقافات، ونرحل في النفوس المتألمة لأنها لا ترى أبعد من أنفها.

وبكثير من المرح، يختلف المؤدون حول أفضلية ثقافاتهم، معددين فضائلها، لتنتهز فرصة يتم من خلالها تجسيد حركة طائر يرفرف بجناحيه. مشهد يرسمه الراقصون بأجسادهم، كما يرسمون مشهدا لحصان تركبه ملكة بريطانيا وخلفها يصطف حراسها، وكذلك عرش يجلس عليه باراك أوباما.

الرقص لم يعد مجرد مرونة جسدية، لراقصين يتحكمون في عضلاتهم، الرقص المعاصر كما قدمه الشرقاوي يوظف المرونة والخفة ذهنيا ومفهوميا، ليطرح أسئلة على جمهوره حول مواضيع تشغلهم، أو ربما أنها لم تكن تخطر لهم. استغلت الأشكال الهندسية الضخمة بأسلوب فطن، فقد حركها الراقصون لنراها تتدحرج ويدخل بعضها في بعض لتشكل عمائر مرتفعه، أو غرفا متجاورة، وربما أنها ترابطت ورقصت مع المؤدين ومثلهم. فهي على أي حال متحركة، خفيفة، وذات وجود طاغ على المسرح.

استغل مصمما العمل، الشرقاوي وجاليه، كل الإمكانات المتاحة، لمكونات المسرح، لتقديم فرجة غنية، شهية، ومبهرة. الراقصون داخل أحد الأشكال الهندسية الذي تحول إلى إطار لصورة، قدموا تشكيلات بأجسادهم لمخلوقات تتقاتل، تتصالح، تتوجع، تفرح، تستريح أو تستنفر. الشرقاوي هذا الفنان القابض على أهم الجوائز العالمية في المسرح، أمتع مشاهديه في «بيت الدين» وأفرحهم. كثيرون لم يكونوا قد تخيلوا أن «بابل» هو عرض بهذه الأهمية، وتقاعسوا، لكن الشراكة بين «بيت الدين» وجمعية «مقامات» صاحبة مهرجان الرقص المعاصر الذي يقام سنويا في بيروت وبنجاح كبير، أثمر في سنته الأولى ليلة أضافت إلى سجل «بيت الدين» الحافل ثمرة جديدة كانت تستحق قطافها.