السعودية: أكبر رحى من «الغرانيت».. شاهد على محرقة أصحاب الأخدود

تقارير تؤكد أن كبر حجمه لا يعني ضخامة البشر في تلك الحقبة

نقش عبارة عن بصمة يدوية على أحد الأحجار الضخمة التي يحويها الموقع (تصوير: عبد الله آل شيبان)
TT

ورد ذكرهم في القرآن الكريم، في سورة البروج، حيث قال الله عز وجل: «قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود»، التي تحكي قصة قوما كانوا في حقبة زمنية عاشوا قبل ألف وخمسمائة سنة.

وعلى الرغم من مرور الزمن ما زالت العظام الهشة السوداء والرماد الكثيف، شاهدة على الحريق الهائل الذي أصاب مدينة الأخدود في عام 525 من الميلاد، وتروي تلك القطع الأثرية المتبقية قصة أصحاب الأخدود الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم.

ولا تزال مدينة الأخدود الأثرية التي تقع على مساحة 5 كيلومترات مربعة على الحزام الجنوبي من وادي منطقة نجران (جنوب السعودية) يكتنفها الغموض والأسرار، على الرغم من عمليات التنقيب والحفر المتواصل لمدة عشر سنوات متتالية.

فعلى سبيل المثال، الرحى الذي كان يستخدم في طحن البذور الغذائية، بات يُنظر له كأكبر رحى من الغرانيت تم اكتشافه في السعودية، وعثر عليه شمال شرقي مدينة الأخدود الأثرية. ولم يسجل تاريخ معين للاكتشاف، إلا أنه يُعتبر من الشواهد الظاهرة على تاريخ الأخدود.

الرحى الخاص بالأخدود، يقع في مكان تحيط به التلال التي تتناثر حولها الكثير من القطع الفخارية والأحجار المتناثرة، التي تدل على أن هذه المنطقة تجارية وسوق قديمة، يعتقد أيضا أنها ملتقى للقوافل التجارية التي تفد من شمال وجنوب الجزيرة العربية.

الموقع يلقى اهتماما منقطع النظير من قبل المهتمين بالآثار والسياحة في السعودية، الذي يعتبر أهم المواقع السياحية والتاريخية التي تحكي حقبة زمنية مضى عليها زمن طويل، لكن لا تزال بقاياها شاهدة على وجودها. صالح محمد آل مريح، مدير الجهاز التنفيذي للسياحة بنجران، اعتبر في حديث لـ«الشرق الأوسط» الرحى من القطع الأثرية التي تجذب الزوار للمواقع، ويلقى ذلك حرصا على تركه في نفس الموقع الذي تم اكتشافه فيه، حفاظا على قيمته التاريخية، ولا يوجد نية لنقله إلى مكان آخر، ولا يحتاج حاليا إلى عمليات تهيئة أو ترميم.

وقال صالح آل مريح «إن قطر الرحى يبلغ مترين إلا ربعا، وارتفاعه متر وربع، وله فتحه علوية، تدخل منها الحبوب، وله قاعدة مربعة بطول 30 سم، وعرض 30 سم، وله عمود قائم بزاوية قائمة، تُدار بواسطة الجمال وليس البشر، فزيادة حجم الرحى لا يعني بالضرورة ضخامة البشر أو أن يكون حجم أهل الأخدود أكبر من متوسط حجم الإنسان. فوفقا للروايات التاريخية فإن أجسامهم عادية مثل البشر العاديين، والدليل على ذلك، العثور على آثار أكف وأرجل مشابهة بشكل كبير للناس العاديين، لكن الرحى صمم بهذا الحجم لخدمة سكان المدينة كاملة».

وقال صالح آل مريح: «لقد أجرى عدد من أعمال التنقيب خلال الـ5 مواسم الماضية، وكان أبرز الاكتشافات العثور على جرة فخارية تحوي أكثر من 1000 قطعة معدنية من العملات التي تعود إلى عدة فترات تاريخية مختلفة وعدد من الممالك والدول، ويجري العمل حاليا على ترميمها ومن ثم عرضها في متحف نجران».

كما بين آل مريح أنه تم اكتشاف مسجد يعود تاريخه إلى القرن الأول الهجري عام 1417 للهجرة، فوق تل يقع شمال الأخدود، وهو مقام على مبنى آخر لم يعرف ماهيته ولم يتم النزول لاكتشافه حتى الآن.

وأضاف آل مريح أنه تجري الآن أعمال تهيئة بموقع الأخدود، منها فتح ممر رئيس داخل القلعة وإعادة بناء جزء من السور الغربي للقلعة وبناء مركز للزوار وبوابة للموقع على طراز مباني الأخدود «الجزء السفلي حجر والعلوي من الطين»، ووضع لوحات إرشادية.

وانطلاقا من مبدأ الشراكة بين الهيئة العامة للسياحة والآثار وأمانة نجران، فقد تم التنسيق لبناء السور الشمالي للأخدود المحاذي لطريق الأمير سلطان بطول 1200 متر على نفس طراز مباني الأخدود، وعمل ممشى لخدمة بعرض 10 أمتار لخدمة المنطقة.

ويحكي الموقع شواهد على القبور التي وجدت في منطقة الأخدود الأثرية. وفي هذا الصدد قال آل مريح: «إن الشواهد التي وجدت في الجزء الجنوبي من المدينة، ومن خلال الحفريات وعمليات التنقيب، تحكي أن المنطقة الشمالية والجنوبية منها سُكنت ما بعد الإسلام، واستخدم الجزء الجنوبي منها كمقابر إسلامية، مستدلا بشاهد (قبر) مكتوب عليه اسم صاحبه (راشد بن سالم) وتاريخ وفاته (542 من الهجرة)».

وأضاف أن «بقية الأخدود لم نجد فيه أي أثر إسلامي يدل على استخدامه من قبلهم سكنا أو مأوى، وقد امتد السكن من المنطقة الشمالية، حتى إن هناك الآن قرية مجاورة للأخدود اسمها قرية الحفل».

وأوضح آل مريح أنه تم أيضا اكتشاف أقدم مسجد بني في منطقة نجران، يعود تاريخه لسنه 100 للهجرة، وهو يقع في الجزء الشمالي من الأخدود.

وعن الخنادق التي أضرمت بها النار التي أشار إليها القرآن الكريم في قصة أصحاب الأخدود، يقول آل مريح: «سميت الأخدود بذلك الاسم نسبة للحفرة التي أمر بحفرها الملك الحميري، لتجميع الحطب بها، وأحرق بالتالي من اعتنق (المسيحية)، التي كانت ديانة جديدة في ذلك الوقت، لذلك ما زالت آثار الحريق بادية في أجزاء المدينة وعلى جدارها ومبانيها».

الملك الذي أمر بعملية الحرق تلك، هو «ذو نواس» الذي يعتبر آخر ملوك الدولة الحميرية، وأقدم على حفر أخدود كبير، جعل منه فرنا، أحرق فيه آلاف المسيحيين، ممن رفضوا التخلي عن ديانتهم والرجوع إلى عقيدتهم اليهودية السابقة.

وإلى الآن تجري محاولات للكشف عن الحفرة أو الأخدود الذي تم فيه الحرق عبر عمليات التنقيب، والثابت لدى الفرق الميدانية التي تعمل على جمع المعلومات، أن الحريق كان هائلا وقويا جدا، حيث إنه أشعل المدينة بكاملها، وما زال رماد الحريق موجودا حتى الآن، بالإضافة إلى عظام للبشر وللحيوانات التي حرقت.

وعن جنس البشر الذين كانوا يعيشون هناك، يقول صالح آل مريح: «هم من جنوب الجزيرة العربية، ولا تختلف ألوانهم وبشرتهم عن القبائل الموجودة حاليا والساكنة في المنطقة، وذلك من خلال نقوش الأرجل والكفوف التي وجدناها، فلم نجد فرقا بين الإنسان القاطن الأخدود في تلك الفترة والإنسان الحالي. وهذا ينفي الزعم بأنهم كانوا عمالقة أو ضخام البنية، لكنهم كانوا أشداء أقوياء، كما وجدنا بعض الحلي التي تروي اعتمادهم على الفضة والبرنز والذهب في الزينة».

وحول ما تحتويه منطقة الأخدود يضيف أنها «عبارة عن مبان متهدمة باق منها الأساسات والجدران, وبعض القطع الحجرية الضخمة كالرحى ومنطقة السوق التجارية»، وأيضا هناك بعض الكتابات والنقوش على الصخر بالخط المسند الذي كان يستخدمه عرب الجنوب. وينتشر في المدينة الفخار الذي كان الأداة المستخدمة في ذلك الوقت.

المنطقة تلك يقوم بزيارتها شهريا أكثر من 3000 زائر، وأول ما يصادفه الزائر جدار دائري مشيد من الحجارة المربعة، ومزين من الأعلى بشرفات تحيط بالمنطقة بكاملها، يشرف عليه حراس أمن يقومون بحراسة المنطقة الأثرية.