عشاق السيارة «السيتروين» ذات الحصانين يعقدون لقاءهم الدوري في فرنسا

صديقة ذوي الدخل المحدود التي نالت بطولات سينمائية ودخلت التاريخ

«السيتروين» بقوة حصانين خلدتها أفلام فرنسية كثيرة وأغنيات جعلت منها رمزا من رموز الحياة الفرنسية
TT

على أرض مساحتها 600 ألف متر مربع، تستقبل بلدة سالبريس، وسط فرنسا، طوال الأسبوع الحالي الملتقى الدولي التاسع عشر لأصدقاء أشهر سيارة في تاريخ الصناعة الفرنسية، هي «السيتروين» بقوة حصانين. وقصد البلدة التي لا يزيد عدد سكانها على 6 آلاف شخص، آلاف الزوار الذين جاءوا من مختلف المدن الفرنسية ومن بلدان مجاورة وهم يقودون 5300 سيارة قديمة من هذا النوع الذي توقفت المعامل عن إنتاجه منذ 20 عاما، لكنها ما زالت قيد الخدمة ويستمر إنتاج قطع الغيار لها حتى الآن.

حملت السيارة التي يختصر الفرنسيون اسمها بعبارة «ليه دو شوفو»، أي الحصانين، عدة ألقاب، منها «السيارة التي تعمل حتى آخر العمر» و«صديقة ذوي الدخل المحدود» لأنها شديدة الاقتصاد في استهلاك البنزين. كما خلدتها أفلام فرنسية كثيرة وأغنيات جعلت منها رمزا من رموز الحياة الفرنسية، مثل الأجبان ورغيف «الباغيت».

وعلى غرار تعلق الإيطاليين بسيارتهم الصغيرة من نوع «فيات 500»، يحافظ الفرنسيون من أصحاب السيارة ذات الحصانين عليها، لا سيما بعد أن أصبحت من المقتنيات النادرة بسبب توقف إنتاج المزيد منها. ولأن كل عاشق يحب التغزل في معشوقته، يجتمع أصدقاء هذه السيارة مرة كل سنتين في واحدة من المدن الفرنسية، لعرض سياراتهم وتبادل أخبارها واستعادة ذكريات الزمن الجميل الذي كان فيه هذا الطراز يدرج على كل الطرقات، في المدينة وفي الأرياف. وقد أعدت بلدة سالبريس المضيفة، التي سبق لها وأن كانت مكانا للملتقى الرابع عشر، كل المتطلبات التي يحتاج إليها «الدوشيت»، نسبة إلى «الدو شوفو»، أي زوار الملتقى الذين عادة ما يفترشون الحقول المحيطة بمكان تجمع السيارات، من حمامات ومرافق صحية ومطاعم متنقلة ودكاكين لبيع التذكارات. هذا بالإضافة إلى سهرات موسيقية راقصة، كل ليلة. لكن رواد الملتقى سيحرمون هذا العام من حفلات شواء اللحم في الهواء الطلق «الباربكيو»، لأن البلدية منعتها بسبب موجة الجفاف التي تعم فرنسا وتسهل اندلاع الحرائق في غاباتها.

وطبعا، فإن مصانع «سيتروين» التي تقوم بدور «أم العروس»، تنتهز فرصة هذا الملتقى لعرض 4 نماذج من سياراتها التي تم إنتاجها قبل الحرب العالمية الثانية وكانت بمثابة التمهيد وولادة تلك السيارة الأسطورية التي طبعت ببصمتها صناعة السيارات في القرن العشرين وبيع منها أكثر من 5 ملايين وحدة في العالم. كما تقام بالمناسبة مسابقة في تفكيك هياكل السيارات وإعادة تركيبها، يتنافس فيها ميكانيكيون من ذوي الخبرة والمهارة في صيانة هذا الطراز الذي يكاد يكون منقرضا لولا اللقاءات الدورية للمدافعين عنه والمتعلقين به.

بدأ إنتاج هذا الطراز، رسميا، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 1948، بعد أن كانت شركة «ميشلان» الفرنسية لإطارات السيارات قد اشترت مصانع «سيتروين» وعينت بيير بولانجيه مديرا لها. وهو الذي فكر في تصنيع سيارة موجهة إلى أبناء الطبقة المتوسطة وأهل الريف من ذوي الدخل المحدود. وكان الهدف غير المعلن السماح للشركة الأم (ميشلان) بمواصلة إنتاج إطارات السيارات على نطاق واسع. ولتحقيق الهدف أرسلت الشركة آلاف الرسائل التي تجمل التصميم المقترح للسيارة إلى زبائن محتملين في كل المناطق الفرنسية. وحمل المشروع اسما حركيا هو «TPV»، وهي الأحرف الأولى لعبارة «سيارة صغيرة جدا». ويتألف التصميم من مركبة ذات 4 مقاعد، قادرة على نقل 50 كيلوغراما من الأمتعة في صندوقها، وتسير بسرعة تصل إلى 60 كيلومترا في الساعة مع مغير للسرعة ذي 3 درجات. كما كان المقترح يشير إلى أنها سيارة سهلة الصيانة، يمكنها أن تقطع حقلا متعرجا وذا مطبات وعلى متنها صندوق للبيض، دون أن تكسر منه بيضة واحدة. والأهم من هذا كله أنها تنفق 3 لترات من البنزين فقط كل 100 كيلومتر.

لم يغفل المشروع الذي أداره المهندس أندريه لوفيفر أن النساء كن قد دخلن ميدان قيادة السيارات في البلد، في تلك الحقبة من بعد الحرب التي قضى فيها ملايين الرجال. لذلك ركزت الدعاية للسيارة الجديدة على أنها «سهلة التشغيل ويمكن حتى للمبتدئين وللنساء قيادتها». وفي ستينات القرن الماضي كان شعار الحملة الإعلانية للسيارة المتقشفة المظهر يقول إنها لا تعدو أن تكون «4 عجلات تحت مظلة». فقد استلهم صانعوها المحرك الصغير الخاص بالدراجات النارية وأضافوا إليه مساحة أكبر مع غطاء للرؤوس يقي من الريح والمطر. وفي معرض السيارات السنوي لذلك العام قدمت «سيتروين» سيارتها الاقتصادية بشكلها شبه النهائي، لكنها لم تلقَ ترحيبا من الصحافة التي لم يرُق لها تكتم الشركة على مشروعها في فترة سابقة. لكن النقد لم يفتّ في عضد أصحاب الفكرة، وفي السنة التالية طرحت السيارة للبيع بلون واحد متوفر ودون أقفال للأبواب، وتم سحب اسم المالك الأول للسيارة الأولى بواسطة القرعة.

كان الانتشار بطيئا، لكن مع حلول عام 1950 كانت الشركة قد باعت من سيارتها المتقشفة أكثر من 6 آلاف وحدة، ثم انفجر الرقم، مع حلول الستينات، بحيث صارت «الدو شوفو» ضرورة للحياة الفرنسية. وقد تعددت ألوانها وأشكالها حتى لم يعد يمكن إحصاء كل التفانين التي أُلحقت بها. لكن لكل أسطورة نهاية يفرضها العصر واحتياجاته المتعددة. ومع اقتراب القرن العشرين من عقده الأخير كان الذوق العام قد تطور في اتجاه الجماليات المستحدثة حتى لم يعد ينسجم مع سيارة متواضعة في محاسنها الظاهرة. صار الشكل هو المقياس. وفي 27 يوليو (تموز) 1990، في الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر، أعلنت مصانع «سيتروين» وقف إنتاج هذا الطراز، نهائيا، واضعة نقطة الختام لحلم جميل كان يسرح، مع الإوز والمواشي والأبقار، على طرقات الريف الفرنسي.