معرض استعادي لبول ريبيرول الفنان الذي تمرد على تقاليد الرسم

الفرنسي الأحمر الذي ترك الشيوعية بسبب المجر وبقي أحمر طيلة حياته

من أعمال الفنان بول ريبيرول
TT

ثمة فنانون لم يكن حضورهم في العالم سوى تعبير عن موقف أخلاقي مميز. وثمة من هؤلاء من دفع ثمنا باهظا جراء المواقف التي اتخذها في الفن، كما في السياسة أو في الحياة، وبقي بعيدا عن عالم الأضواء رغم تأثيره البالغ ووجوده اللافت. من هؤلاء يعتبر الفنان الفرنسي الراحل بول ريبيرول (1926 – 2005) عالما فريدا منحوتا بحد ذاته.

في معرض استعادي لأعمال ريبيرول، في مؤسسة «سالومون» للفن المعاصر في ألكيس، قرب جينيف يحضر ريبيرول، هذه المرة، طيفا أليفا لرسومه وأعماله الفنية التي تتوزع بين الرسم والنحت، هو الذي قال يوما: «ما يحدث في العالم يبدو أكثر مأساوية، وأكثر قليلا من قوة مياه الجدول، لذلك أرسم يوميا محاولا إزالة الغشاوة عن الحياة. لكن عبثا أحاول، ومع ذلك فهذه هي طريقتي في الرسم وفي الحياة». المعرض الذي يستعيده قريبا، بعد ستة أعوام على رحيله، يظهر لأول مرة الجانب الآخر من ريبيرول، الجانب الأكثر إخفاء على الجميع. الألوان التي يتوسطها الأحمر دوما، في مختلف تدرجاته ومراحله، يبين مدة قوة الرؤية الشخصية لهذا الفنان، الذي تمرد على تقاليد الرسم المعروفة، وسلك دروبا تجريبية، لم يسلكها أحد من قبل.

تظهر اللوحات الجدارية الضخمة، وكذلك بعض اللوحات من المقاسات الصغيرة، إلى جانب المنحوتات البرونزية، الطرف المأساوي من تفكير ريبيرول. لم يكن ينظر إلى العالم خارج مرسمه سوى بنظرة الريبة والشك في الجماليات حتى حدود التشاؤم، من بعيد، يمكن اعتباره تلميذا نجيبا للمدرسة البودليرية وحتى لمدرسة المعري المبنية على التشاؤم النفاذ إلى قلب الأشياء. فلا الطبيعة بجمالها الأخاذ مغرية له، ولا البشر يملكون السحر الذي يجعله يقلب معادلته القائمة على رؤية عالم من المآسي المتوالدة بعضها من بعض كما توالد الإصرار لدى سيزيف، صاحب الصخرة الأشهر.

ما يميز أعمال ريبيرول، إن شئنا القول، هو هذه النظرة التشاؤمية والتشكيكية للعالم المحيط به. وهي نظرة إن تم الإمعان قليلا في قلبها، آتية لا محالة من تجربة الإقامة الباريسية في الخمسينات وانتمائه إلى الحزب الشيوعي الفرنسي الذي تركه بعد فترة قصيرة بسبب الغزو الروسي للمجر في عام 1956 للتعبير عن خيبة أمل كبيرة من المنظومة الاشتراكية - الشيوعية التي «تدعي مناصرة الإنسان في حين أنها تسحقه تحت جنازير دباباتها». وشهد عام 1959 نفسه أولى مشاركاته في بينالي باريس للفن المعاصر، وأنتج لوحة عملاقة سماها «بلانش موشن» بناء على طلب خاص من البينالي، وهي المشاركة التي كرسته صاحب رؤيا أخلاقية في الحياة وتجريبية في الفن. لكن ريبيرول الذي شهد صعود بينالي باريس منذ عام 1959، وهو في الثالثة والثلاثين وحتى عام 1963، حين قرر ترك باريس نهائيا، اختار مكانا بعيدا عن مسقط رأسه ليعيش في شمال فرنسا متفرغا للرسم والنحت حتى عام وفاته في عام 2005 وتفرغ بشكل تام للطبيعة التي جرى في حقولها وحيدا بنظرة مختلفة وإحساس آخر.

كان لتشكيكيته في الأفكار السائدة، خصوصا السياسية، الأثر البالغ في حياة هذا الفنان، الذي قرر العيش منعزلا في قرية صغيرة. لكنها والحال هذه تركت أعمالا هامة، تعد اليوم من أبرز ما أنتج فنيا في النصف الثاني من القرن العشرين على مستوى المدرسة التعبيرية التي كان ماتيس وكذلك كاندينسكي وفان غوخ أبرز روادها. لكن في حالة ريبيرول، بقيت اللمسة التشكيكية والتشاؤمية تبرز أكثر فأكثر في غالبية الأعمال.

يضم المعرض وهو الأضخم لريبيرول بعد رحيله لوحات من مقاسات مختلفة، تم جمعها من متاحف ومن عدد كبير من المالكين في أنحاء كثيرة من العالم ومن فرنسا بشكل خاص. وكذلك بعض الأعمال البرونزية واللوحات الموجودة في المتحف الخاص به والذي شيدته بلدية بودرفيل القرية، المدينة التي عاش ومات فيها بعيدا عن مكان ولادته في وسط فرنسا. أما حدث هذا المعرض، الذي يتم في مكان بعيد عن باريس، العاصمة التي تتلألأ فيها الفنون، فهو أنه يطرح أسئلة كثيرة ومتشعبة، يكاد يكون أهمها عن دور الفن المعاصر في خلق مشاهدة خاصة للعالم على ضوء ما يحدث فيه، كما أنه يكرس مبدأ العمل المتواصل والفريد في خلق صورة لهذا العالم عجز ريبيرول عن الوصول إليها كما عجز على الأرجح معظم مجايليه عن بلوغها.