مباني تكنولوجيا الماضي تصبح أمكنة لفنون وتصاميم المستقبل في أوروبا

مصنع «فيليبس» في هولندا يتحول إلى معارض فنية وقاعات للحفلات الموسيقية ومطاعم

اجتذبت الأفدنة المقام عليها المصانع الخالية خريجي أكاديمية التصميم العريقة في إندهوفن، المشهورة على نطاق واسع باعتبارها معقل التصميم على مستوى البلاد («نيويورك تايمز»)
TT

في بعض الأحيان، تخرج بعض أروع المشاريع وأكثرها تفردا من رحم أسوأ الظروف. في أواخر السبعينات وفي ثمانينات القرن الماضي، قامت شركة «فيليبس»، وهي شركة متعددة الجنسيات تشتهر بمنتجاتها الإلكترونية، التي اتخذت من مدينة إندهوفن الصغيرة في جنوب هولندا مقرا لها منذ إنشائها في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وبدأت في نقل نشاطاتها الإنتاجية إلى آسيا. تسبب ذلك في فقدان المئات من المهنيين المهرة أعمالهم، بجانب الكثير من مجمعات المصانع المهجورة والملوثة على بعد دقائق من قلب المدينة. وقد تم تحويل بعض المصانع إلى مساحات مكتبية، بينما ظلت بعضها خالية لسنوات، لتذكر الجميع على نحو كئيب ومستمر بالجانب المدمر من نشاطات التعهيد العالمية.

إلا أنه بمرور الوقت، اجتذبت الأفدنة المقام عليها المصانع الخالية خريجي أكاديمية التصميم العريقة في إندهوفن، المشهورة على نطاق واسع باعتبارها معقل التصميم على مستوى البلاد. في السنوات الأخيرة، طالب طلاب سابقون بالاستحواذ على المباني التي تم تنظيفها وتعج الآن باستوديوهات ومعارض فنية، بجانب استضافتها حفلات موسيقية ومطاعم.

في هذا الصدد، قال بييت هين إيك، أحد الشخصيات الهولندية البارزة بمجال التصميم، الذي يطارده عاشقو جمع قطع الأثاث الحديثة على المستوى الدولي نظرا لروعة تصميماته البوهيمية بالنسبة للطاولات والأسرة المصنوعة من أخشاب متعددة الألوان مقطعة على شكل صفائح: «برحيلها عن المدينة، أجبرت الشركة إندهوفن على التطور والتحول لمدينة بالغة»، يذكر أنه عام 1997، نقلت «فيليبس» مقرها الرئيس إلى أمستردام، على الرغم من استمرار بقاء بعض عناصر الشركة في إندهوفن.

في أكتوبر (تشرين الأول)، خلال فترة أسبوع التصميم الهولندي الذي يقام بانتظام منذ 10 سنوات، والذي تستضيفه إندهوفن، احتفل إيك بافتتاح مقر واسع جديد في «سترييب آر»، وهي سلسلة من المباني الصناعية المبنية بالآجر استغلت من قبل في استضافة مصنع «فيليبس» لإنتاج الخزف.

في صباح يوم صحو ودافئ هذا الأسبوع، عجت المنطقة بعمال محليين يتحركون بدأب، وتم تخصيص مساحة مميزة لبيع التجزئة لمقاعد وطاولات تحمل توقيع إيك، بجانب قطع من إبداع المصممين العالميين المفضلين لديه، مثل توم ديكسون المقيم في بريطانيا. وجرى تخصيص مساحة أيضا لمقهى فسيح يوفر الأطعمة والمشروبات للعمال.

من ناحيتها، أوضحت لورا ويتلينغ، العاملة بالمقهى أثناء إعدادها كابتشينو، أنه «اعتاد الناس الانتقال من إندهوفن إلى أمستردام، لكن الآن تبدل الحال وأصبح الناس ينتقلون من أمستردام إلى إندهوفن».

في جزء آخر من المجمع توجد مساحات كبيرة جرى تأجيرها كاستوديوهات فنية للتصميم، وهي مفتوحة أمام الجمهور، وإن كان من الأفضل حجز مواعيد مسبقة للزيارة. وخلال أسبوع التصميم، تفتح جميع الاستوديوهات أمام الزائرين. صباح ذلك اليوم، كان ديرك فاندر كوي منصبا على العمل بالتعاون مع متدرب جديد، وذراع إلكترونية ضخمة داخل محل عمله المؤلف من طابقين. وقد نال كويواز، 28 عاما، وأثار ضجة كبيرة وحصد كثيرا من الجوائز في مهرجانات للتصميم هذا العام عن مقاعد صممها باسم «إليفانت سكين»، وهي مقاعد حديثة صنعها من خيوط بلاستيكية أنتجها بالتعاون مع إنسان آلي وقطع شديدة الصغر من أجهزة تبريد أعيد تدويرها. مثل إيك، تخرج فاندر كوي في أكاديمية التصميم، التي تخرج فيها بعض نجوم التصميم الهولنديين، مثل مارسيل فاندرز وهيلا جونجيريوس وجورجن باي وستوديو جوب.

فيما مضى، كان خريجو الأكاديمية يتجهون مباشرة نحو روتردام أو أمستردام لبناء حياة مهنية لهم. الآن، يفضل الكثيرون البقاء بالمدينة. عن ذلك، قالت آن ميك إيغينكامب، رئيسة أكاديمية التصميم التي منذ عام 1997 تم نقل مقرها لمبنى آخر من مباني «فيليبس»: «لا يمكن أن نصف إندهوفن بالرتابة بعد الآن».

وأضافت: «المدينة تتغير بالتأكيد. ويشعر الخريجون بالانجذاب للمساحات والفرص المتوافرة هنا. وبالمساحة هنا أعني المعنى الحرفي للكلمة بالنظر إلى المباني المتوافرة، وأيضا المساحة المتاحة لهم داخل المدينة للاستكشاف وتجريب الأفكار». ويتفق خريجو الأكاديمية مع هذا الرأي.

على سبيل المثال، قالت نادين ستيرك، المشاركة في فريق «أتيلير إن إل» للتصميم: «يتوافر هنا مناخ عام رائع. ولدي الكثير من الأصدقاء الذين فضلوا الإقامة هنا أيضا».

منذ تخرجها منذ خمس سنوات، نجحت ستيرك وصديقتها لوني فان ريزويك في الفوز بإشادة جمهور صغير لكنه مؤثر من المعجبين بأعمالهما، وهي عبارة قطع زجاجية ورخامية مصنوعة من الطين والرمل قامت الصديقتان بجمعها من مناطق مختلفة من هولندا.

وفضلت الصديقتان البقاء في المدينة نظرا للتكلفة المناسبة لمكان العمل. وفي مدينة يجري النظر فيها إلى دراسة وصناعة التصميم بنفس القدر من التبجيل للحركات الدينية، بدا من المناسب أن تتخيل ستيرك وريزويك الإطار العام لأعمالهما داخل كنيسة. وأشارت إيغينكامب إلى خريج حديث آخر من أبناء الأكاديمية، روكو فيردولت المتخصص في مجال المناسبات الاجتماعية داخل المدينة، الذي أحيانا ينظم فقرات موسيقية غير معلن عنها بمناطق يختارها على نحو عشوائي بالمدينة «لرجل جمع قمامة يرقص ديسكو»، حيث يرتدي زي عمال المدينة ويشرع في عزف الموسيقى وحث المارة على الرقص.

عبر الشارع على الجهة المقابلة للأكاديمية، يوجد مشروع طموح يقوده خريج حديث آخر، حيث افتتح متجر «تمبراري كونسيبت ستور»، المملوك لمصممة الإكسسوارات جانيتا فان دين هاك. وتطلق على فكرتها «التسوق البطيء»، وترى أنها المكافئ على صعيد بيع التجزئة لحركة الطعام البطيئة.

داخل المتجر في إندهوفن، الذي يعرض أعمالا من إبداع طلاب الأكاديمية، وتبيع فان دين هاك قطع إكسسوارات زجاجية من تصميمها وحقائب مصنوعة من الجلد، بجانب مزيج من مواد التصميم والموضة، وسلسلة من الأباريق الزجاجية من تصميم «لوت دي رادت»، وتعكس أنماطا متنوعة من مصادر المياه داخل هولندا. وتعتمد السيدتان، مثلما الحال مع مصممين آخرين يعرضون منتجاتهم بالمتجر، على حرفيين محليين من العاملين بالصناعات اليدوية في إنجاز تصميماتهم.

وبجانب المشهد الثقافي المحلي الصاعد، تظهر بطبيعة الحال الحاجة إلى خيارات مبدعة لتناول الطعام. وعلى الرغم من أنه استغرق شهورا للعثور على طاه مناسب، يخدم المطعم والمقهى الموجود داخل مجمع إيك من توفير وجبات غداء وعشاء يوميا، فيما عدا أيام الاثنين. ويعمل القائمون على المطعم على محاولة مضاهاة فلسفة التصميم الخاصة بإيك عبر تقديم أطعمة محلية وبسيطة.

وداخل مصنع آخر لـ«فيليبس» في قلب إندهوفن، توجد حانة «أوسين» الفرنسية الطراز، التي تتميز بأثاث مريح وأنيق. ولم يكن من السهل على ملاك الحانة تحويل هذه المساحة الصناعية مترامية الأطراف إلى مكان يجتذب الأفراد لقضاء الوقت به، لكن المساحة الواسعة للجلوس بالخارج المطلة على «بلوب»، وهي قبة مصنوعة من الزجاج والصلب من تصميم المهندس المعماري الإيطالي ماسيميليانو فوكاساس، مما أسهم في تحويل الحانة لواحدة من أشهر أماكن التقاء الأصدقاء على مستوى المدينة.

ومع ذلك، قد يشعر زائرو إندهوفن بالدهشة من أنه على الرغم من كل المصممين المبدعين والعمل الدؤوب الجاري هنا، لا تضم المدينة نفسها كثيرا من المعالم الجذابة. تعد إندهوفن واحدة من أقدم مدن هولندا، لكن كثير من معمارها التاريخي تعرض للتدمير في الحرب العالمية الثانية. وقطعا أصبح مظهر المدينة أكثر جاذبية بتنفيذ مشروع طموح وهو «ستريب - إس»، وهو عبارة عن مجمع مقام على مساحة شاسعة الاتساع استخدمته «فيليبس» من قبل في تصنيع منتجات إلكترونية متنوعة.

عام 2004، اشترت شركة «ترودو» للتنمية الموقع وقضت سنوات عدة في تطوير خطة كبرى إبداعية بمساعدة المصمم المعماري الهولندي المبدع جو كوينين.

ويضم المجمع بالفعل متنزها للتزلج وعدة استوديوهات للتصميم واستوديو للتسجيلات الفنية ومساحة لإقامة حفلات موسيقية، علاوة على استضافة المجمع لكثير من الاحتفاليات، وتقام به مطاعم خلال أسبوع التصميم، الذي سيقام هذا العام بين 22 و30 أكتوبر (تشرين الأول)، ومعرض «غلو فورم أوف لايت إن آرت آند أركتكتشر» بين 5 و12 نوفمبر (تشرين الثاني)، الذي سيركز على الاستخدامات الإبداعية للضوء الصناعي.

يضم المجمع ما يصل إلى 240 شقة وسوقا عصرية مترامية الأطراف لمنتجات غذائية محلية ومتنزها شبيها بمتنزه «هاي لاين» في مدينة نيويورك، و«قرية» مبنية من الحاويات من المقرر أن تستخدم كمكان مبيت للفنانين ومندوبي شركات بيع التجزئة، طبقا لما ذكره جاك هوك، مدير مشروع «ترودو».

ربما تكون «فيليبس» قد هجرت المدينة، لكن حتى من دون الشركة، لا تزال إندهوفن مكانا تلمع فيه مختلف الأضواء من كل مكان.

* خدمة «نيويورك تايمز»