جاستون ماسبيرو.. أول مدير للمتحف المصري كان راتبه ألف جنيه سنويا

اكتشف 4 آلاف نص باللغة الهيروغليفية وأنشأ المعهد الفرنسي للآثار الشرقية

المتحف المصري بالقاهرة (أ.ب) وجاستون ماسبيرو
TT

في الوقت الذي كان فيه المتحف المصري بميدان التحرير في قلب القاهرة على موعد لجرد مقتنيات قاعاته ومخازنه بحثا عن مفقوداته من ناحية، وللتأكد من أصالة ما تضمه هذه المقتنيات من كنوز «فرعونية» من ناحية أخرى، كانت دار المحفوظات العمومية التابعة لوزارة المالية على موعد مع اكتشاف الملف الوظيفي للفرنسي جاستون ماسبيرو (1846 - 1916)، الذي كان أول من تولى رئاسة هذا المتحف.

الملف اكتشفه فريق العمل بمشروع رقمنة محتويات الدار، الذي تنفذه مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع وزارة المالية ضمن رقمنة ملفات خدمة الموظفين العموم بالدولة المصرية، والمحفوظة في داخل الدار، وهو الملف الذي يعكس أسرارا تخص الملف الوظيفي لأول مدير لأقدم متحف مصري، وهو المتحف الذي يصنف أيضا بأنه من أقدم متاحف العالم وأعرقها تاريخا وضمه لمقتنيات، تزيد على نحو 200 ألف قطعة أثرية ترجع إلى العصر «الفرعوني».

اكتشاف ملف ماسبيرو الوظيفي كشف عن تعيينه مديرا للمتحف الذي يزيد عمره على قرن كامل، والذي كان يعرف وقتها بـ«الأنيتكخانة»، وأنه كان يتقاضى عن عمله هذا راتبا سنويا قدره ألف جنيه. وكشف الملف أن ماسبيرو كان قد صدر فرمان عن الخديوي عباس حلمي الثاني بتعيينه مديرا لعموم المتاحف المصرية ومدير عموم الآثار التاريخية.

وفي هذا السياق، فإنه يعرف عن المجلس الأعلى للآثار احتفاله سنويا بيوم الآثاريين المصريين، وهو اليوم الذي يوافق يوم 14 يناير (كانون الثاني)، عندما تم تمصير مصلحة الآثار المصرية، بعدما ظلت خاضعة لرئاسة الفرنسيين حتى عام 1953، وكان أول رئيس مصري لها الدكتور مصطفى عامر.

غير أنه وعلى الرغم من هذا التمصير لم يتنكر المصريون للجميل الذي أسداه لهم ماسبيرو بحق الآثار المصرية، وحرصه على التنقيب عنها، ودفع العمل بها، وسعيه إلى تهيئة أول متحف للآثار المصرية، الذي تتقل في عدة مواقع، إلى أن انتهى في موقعه القائم حاليا بميدان التحرير في قلب القاهرة.

لم يقف ولع ماسبيرو على المتحف المصري فقط، بل تجاوزه وترجم حبه للآثار بإنشاء صروح تعليمية للتوعية بالآثار المصرية، عندما أنشأ المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، وكان مديره الأول، كما استطاع اكتشاف أكثر من 4 آلاف نص باللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية)، علاوة على ذلك، حرص على استكمال حفائر الفرنسي مارييت، صاحب فكرة إنشاء المتحف في معبدي إدفو وأبيدوس، في الوقت الذي كان المصريون قد أسبغوا فيه على مارييت لقب «الباشوية» تقديرا لعطائه أيضا للآثار المصرية، حتى إنه أوصى بأن يدفن في حديقة المتحف المصري بالتحرير جراء حبه لمصر وآثارها، وللمتحف الذي يرجع إليه الفضل في إنشائه. ولد ماسبيرو لأبوين إيطاليين هاجرا إلى فرنسا، واهتم بالتاريخ المصري القديم فتعلم الهيروغليفية والتحق بمدرسة الأساتذة العليا وفيها قابل عام 1867 عالم المصريات الشهير أوغست مارييت الذي أعطاه نصين هيروغليفيين تميزا بصعوبة القراءة واستطاع قراءتهما في 8 أيام ثم أصبح عام 1869 مدرسا للغة المصرية القديمة، وفي عام 1874 عين أستاذ كرسي شامبليون في كوليدج دي فرانس.

ماسبيرو حرص في كل مراحل حياته الوظيفية بالآثار المصرية أن يستحدث وسائل للكشف عن هذا التراث، فقد عمل على إزالة الرمال من حول تمثال أبو الهول في منطقة أهرامات الجيزة عام 1886، وقام بإعادة ترتيب المتحف المصري ببولاق في الجيزة، قبل انتقاله إلى موقعه الحالي في القاهرة، كما كان له دور بارز في اكتشاف خبيئة أثرية بمعابد الكرنك في الأقصر، كانت تحتوي على مجموعة هائلة لمومياوات الفراعنة في عام 1881، وتم العثور فيها على مومياوات كل من الفراعنة سقنن رع، وأحمس الأول، وتحتمس الثالث، وسيتي الأول، ورمسيس الثاني.

علاوة على ذلك، فقد أعاد ماسبيرو بمساعدة عالم المصريات أحمد بك كمال الكثير من الآثار المسروقة إلى مخازن المتحف المصري، وقام في عام 1912 بسن قانون «القسمة»، الذي كان ينظم عملية التنقيب عن الآثار بموافقة السلطات المختصة آنذاك، بما يسمح للأجانب باقتسام الآثار التي يكتشفونها مع جهات الدولة المصرية، إلى أن ألغى قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 هذا النظام، الذي صدرت له تعديلات في فبراير (شباط) من العام الماضي بقانون جديد.

وكان رد الجميل له من المصريين بالكشف عن ملفه الوظيفي داخل دار المحفوظات، في إطار مشروع تجريه مكتبة الإسكندرية لرقمنة مجموعة مختارة من وثائق وملفات ودفاتر الدار، وذلك باستخدام أحدث التكنولوجيات المتاحة للتوثيق الرقمي، واعتمادا على خبرتها في تنفيذ مشاريع في هذا المجال، حيث أعدت معملا تقنيا على أعلى مستوى يضم أحدث الأجهزة في أرشفة وحفظ الوثائق القديمة في دار المحفوظات العمومية لتنفيذ المشروع.

ومن بين ما كشف عنه المشروع للملف الوظيفي لماسبيرو إجازاته خلال عمله بالجهاز الإداري للدولة المصرية، وكشوف بمدة خدمته في مصلحة «الأنيتكخانة» (المتحف المصري) منذ سنة 1909 حتى مايو (أيار) 1914، وأخيرا قرار إحالته إلى التقاعد عام 1914، بالإضافة إلى التوصل لتاريخ مولده، الذي يؤرخ في 21 يونيو (حزيران) عام 1846 لأبوين إيطاليين هاجرا إلى فرنسا.

ويقول د. خالد عزب، مدير الإعلام في مكتبة الإسكندرية، إنه من خلال فحص الملف الوظيفي لماسبيرو، يبدو أنه كان منذ صغره مهتما بدراسة التاريخ، وبخاصة التاريخ المصري القديم، فتعلم الهيروغليفية، وفاز في سن الثالثة عشرة بالمسابقة العامة للأدب، والتحق بمدرسة الأساتذة العليا، وهناك التقى بعالم المصريات الشهير أوغست مارييت عام 1867، فأعطاه نصين هيروغليفيين تميزا بصعوبة القراءة، فاستطاع قراءتهما في 8 أيام فقط.

كما أصبح ماسبيرو في عام 1869 مدرسا للغة المصرية القديمة، وفي عام 1874 عين أستاذ كرسي شامبليون، ولاحت له فرصة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1880 الحضور إلى مصر التي عشقها وعشق تاريخها وآثارها، حيث ترأس البعثة الآثارية الفرنسية، وذلك بعد مرض مارييت، مدير مصلحة الآثار المصرية، فجاءها في يناير عام 1881، وتولى بعدها منصب مدير مصلحة الآثار وأمانة المتحف المصري ببولاق (دار الآثار القديمة – الأنيتكخانة) بعد وفاة مارييت، وكان عمره آنذاك 34 عاما.

ماسبيرو كثيرا ما تعرض لمضايقات سلطات الاحتلال البريطاني بصفته فرنسيا، فقدم استقالته عام 1892، غير أنه عاد مرة أخرى عام 1899، ثم رحل إلى باريس عام 1914 بعد أن ترأس مصلحة الآثار المصرية لأكثر من عقدين، حيث عين في منصب المستشار الدائم لأكاديمية الفنون والآداب، فخلفه في رئاسة مصلحة الآثار المصرية الفرنسي «بيار لاكاو»، إلى أن توفي في 30 يونيو عام 1916، ودفن في فرنسا.

أما المتحف المصري الذي ترأسه ماسبيرو، والذي انتصب كشاهد عيان على ثورة 25 يناير في ميدان التحرير، فقد تعرض هذا الصرح الأثري للسرقة مساء 28 يناير الماضي، عقب الانفلات الأمني الذي شهدته البلاد، جراء انسحاب الشرطة من الشوارع المصرية، في الوقت الذي تزامن فيه تشكيل لجنة تضم أكاديميين من كلية الآثار في جامعة القاهرة لجرد جميع مقتنيات المتحف في قاعاته ومخازنه المختلفة، على خلفية بلاغ يتهم وزارة الآثار قبل إلغائها وحصرها في المجلس الأعلى للآثار، بالمسؤولية عن فقد آثار من المتحف، وتقليد أخرى مكانها. وكانت المفاجأة أخيرا بعثور اللجنة أثناء الجرد على قطعتين أثريتين، وتم رفعهما من قائمة مفقودات المتحف، التي تم سرقتها منه عقب ثورة 25 يناير.