مع بدء شهر رمضان الفضيل تزدحم أسواق المدن بالمتسولين، وخاصة أمام بوابات المساجد، حيث تتناطح الأيدي الممدودة إلى الخارجين منها، بينما تفترش النسوة مناديلهن الكبيرة على الأرض، وقد تتعرض بعضهن إلى ركلات المصلين الذين تزدحم المساجد بهم في أوقات الصلاة بهذا الشهر الفضيل.
وعندما تلج في عالم التسول تجد أشياء وتكتشف أسرارا كثيرة معظمها طريف إلى حد ما، مثل ذلك الرجل الخمسيني الذي كان معروفا في مدينة أربيل بستينات القرن الماضي بشلل في رجليه، وكان يأتي إلى السوق يوميا زاحفا على يديه، ولكنه شوهد في أحد أيام شهر رمضان قرب حلول آذان المغرب وهو يركض على رجليه ليعود مسرعا إلى بيت، فانكشف سره وأصبحت قصته معروفة في أرجاء المدينة.
إظهار العاهات أو التصنع بها أو حتى إحداثها عمدا، كما رأينا ذلك في فلم «المتسول» للممثل عادل إمام، بقصد كسب التعاطف، أصبح حالة معروفة ومستدامة في عالم التسول، ولكن المشكلة الكبرى أن هذه الجريمة ترتكب عادة بحق أطفال صغار يكونون ضحية لهذه الظاهرة وتحولهم إلى متسولين دائمين، لأنهم يتدربون منذ صغرهم على هذه المهنة الوضيعة.
الملاحظ أن المتسولين والمتسولات يتجمعون عادة أمام المطاعم أو المساجد، والهدف واضح بهذا المجال، وهو استدرار عطف الخارجين من تلك الأماكن، فالمتسول يريد أن يقول للخارج من المطعم: «أنت شبعت وأنا جوعان فتصدق علي لكي أشبع مثلك»، أما المتجمعون أمام المساجد فرسالتهم هي تذكير الخارجين منها بأوامر الله بتكثير الصدقات ومساعدة الفقراء والسائلين. لذلك فإن المحصول اليومي للمتسول يزدهر في هذه الأماكن تحديدا، وهناك من المتسولين من يحجز لنفسه مكانا ثابتا أمام أحد المساجد ولن يغيره.
أما في الأسواق، فالمتسولون ينتشرون هنا وهناك، وعادة ما تتغطى المتسولات بالبوشية، أو يضعن البرقع، لكي لا يتعرف عليهن أحد، وخاصة إذا كن من عائلات المدينة، أما المقبلات من المدن الأخرى فإنهن لا يتحرجن من كشف وجوههن لأنهن غير معروفات.
وعلى الرغم من حالة الانتعاش الاقتصادي الكبير الذي حصل في إقليم كردستان العراق، فإن الظاهرة ما زالت موجودة وبشكل واسع، والطريف أن حالة الانتعاش الاقتصادي لمواطني الإقليم وصلت أيضا إلى المتسولين الذين انتعشت أحوالهم أيضا، فقد رصدت «الشرق الأوسط» في إحدى أسواق مدينة أربيل أحد المتسولين وهو يتصل عن طريق الجوال بشخص يعتقد أنه يدير مكتبا للعقارات، وكان المتسول يفاوض ذلك الشخص لاستئجار منزل، وكان يساومه على الإيجار ويطلب منه أن يخفض السعر من 600 ألف إلى 500 ألف دينار، أي نصف مليون دينار.
من الناحية القانونية، التسول ممنوع قانونا. ففي اتصال مع مدير شرطة محافظة أربيل أكد العميد عبد الخالق طلعت أن التسول ممنوع، وهناك لجنة على مستوى إدارة المحافظة، وفيها ممثلون من الشرطة المحلية، تتجول في الأسواق لمنع الظاهرة، والإجراءات تتحدد أولا بإلقاء القبض على المتسول وأخذ تعهد منه بعدم ممارسة المهنة، وتوثيق ذلك التعهد لدى مديريات الشرطة، وفي حال عاود التسول وألقي القبض عليه للمرة الثانية، عندها يحال إلى المحكمة لمعاقبته قانونا، وقد تمت إحالة المئات منهم إلى المحاكمة بهذا الصدد.
ونوه مدير الشرطة بأن مفارز الشرطة تتجنب إلقاء القبض على المتسولين أمام المساجد والجوامع احتراما لهيبة وحرمة تلك المواقع الدينية التي لا تدخلها الشرطة.
أما من الناحية الاجتماعية فيتحدث يوسف عثمان، الباحث الاجتماعي لـ«الشرق الأوسط»، محللا أسباب وتاريخ التسول وكيفية معالجة الظاهرة، ويبتدئ بالحديث عن ظهور التسول تاريخيا بالإشارة إلى عدة مراحل تاريخية لنشوئه ويقول: «من الناحية اللغوية جاء في القاموس العربي كلمة (الاستجداء)؛ فالمستجدي عرف بأنه من يطلب المساعدة في حالة الضرورة، وهناك مصطلح آخر يستخدم في هذا المجال وهو (الشحاذة) ويستخدم كثيرا في مصر، والشحاتة بالأصل كلمة روسية تعني الطلب، أما من الناحية الدينية فيستخدم مصطلح (السائل)، ويحث القرآن على مساعدة السائل ومعاملته بشكل حسن، ولكن هناك حديث قدسي يحرم التسول»، ويستطرد: «الظاهرة بدأت تاريخيا منذ زمن بعيد، ويعيدها البعض إلى زمن الطوفان العظيم، عندما أتى الفيضان على كل خيرات الأرض، ولكن شيوعها بدأ أثناء الثورة الصناعية في أوروبا وما أحدثها من الاستغناء عن الأيدي العاملة، وظهور البطالة على شكل واسع هناك، ثم تفاقمت أثناء الحربين العالميتين، وما بعدهما، عندما عمت البطالة مجددا معظم الدول الأوروبية، وفي العراق ظهرت الحالة بجنوب العراق وكان يقال للمتسول (معيدي). وكان السبب الأساسي لظهورها هو الهجرة المكثفة من الريف إلى المدينة، وانعدام التعليم وفرص التوظيف لمعظم المهاجرين الجدد».
ويعتبر عثمان الهند مركزا عالميا والأصل للتسول، فيقول: «في العالم كله هناك أرقام تشير إلى وجود 850 مليون متسول، 380 مليون منهم في الهند، والباقي يتوزعون على بنغلاديش وباكستان وغيرها من الدول، أما في كردستان، فقد نشأ التسول في الأساس لدى الغجر، وتحول عندهم إلى مهنة يكتسبها الأبناء عن الآباء، ويجب ملاحظة أن هؤلاء الغجر جاءوا أصلا من الهند، وهناك ثلاثة أنواع من تسول الغجر، النوع الأول يستجدي المال، والثاني يستجدي الطعام، والثالث يستجدي بصنع التماثيل الخشبية أو منسوجات معينة، والمشكلة أن الظاهرة تختلط بها في بعض الأحيان حالات الدعارة، وخصوصا لدى أولئك النسوة اللاتي يطرقن أبواب البيوت، كما أنها قد ترافقها في أحيان أخرى ترويج للمخدرات».
وبسؤاله عن حالة ذلك المتسول الذي كان يهاتف مكتب العقارات لاستئجار البيت، قال يوسف عثمان الباحث الاجتماعي: «نعم، هناك من بين المتسولين من يمتلك بيتا وحتى سيارات خاصة، فبعض هؤلاء يعتادون على التسول، ومنهم من يعتبره مهنة يتخذها للاغتناء، فالمحصول اليومي للمتسول قد يتجاوز عشرات الآلاف الدنانير، والمهنة لا تتطلب سوى بعض الحذاقة والتفنن، لاحظ أن البعض منهم يرافقهم أطفالهم في جولاتهم على البيوت، واستمع إليهم عندما يقول أحدهم إن والدته مريضة، ويريك تقريرا طبيا مزيفا، أو يقول إنه فقد أمواله أو سلبت منه ولا يستطيع العودة إلى المدينة التي أتى منها مع طفله، وهؤلاء يركزون تحديدا على العجائز في بيوتهم».
وحول سبل معالجة الظاهرة يقول الباحث الاجتماعي: «على الرغم من أن القانون يمنع التسول، فإن هناك طرق أخرى غير العقاب بإمكانها أن تخفف الظاهرة، فمثلا قبل فترة حاولت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أن تعالج مشكلة تسرب الأطفال من المدارس، ذهبوا إلى الأطفال المتسولين، وسألوهم عن محصولهم فأجابوا بأنهم يجمعون 200 ألف دينار شهريا، فقيل لهم هل إذا أعطيناكم 250 ألف بالشهر ستعودون إلى مدارسكم؟ قالوا: نعم، وهكذا تم إدراجهم في شبكة الرعاية الاجتماعية من أجل ضمان إعادتهم إلى مدارسهم، وقد أخذ من أوليائهم تعهدا خطيا بعدم دفعهم إلى الشوارع للتسول مجددا، هذا جزء من الإجراءات الممكنة للحد من شيوع الظاهرة، وخاصة التسول أو عمالة الأطفال في الشوارع».
وأشار الباحث إلى أن «التسول ظاهرة معدومة تماما لدى المسيحيين، فهو أمر معيب جدا لديهم، والكنيسة تتكفل بمساعدة الفقراء والمحتاجين منهم، ولذلك لا يسمحون للمسيحي بأن يتسول».
أما من الناحية الدينية فإن المتحدث الرسمي باسم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بحكومة إقليم كردستان، مريوان النقشبندي، يرى أن الظاهرة شائعة فعلا في المجتمعات الإسلامية، ويقول: «الظاهرة غير مقبولة، ونحن في الوزارة نرفض بالأساس، وقد أبلغنا أئمة وخطباء المساجد بعدم الترويج لهذه الظاهرة الاجتماعية المرفوضة، وأن لا يستخدموا منابر المساجد لحث المسلمين على التبرع للمتسولين الواقفين أمامها، لأن من شأن ذلك أن يفاقم المشكلة ويشجع شيوع الظاهرة».
ويشير النقشبندي إلى أنه «في كردستان تصرف ملايين الدولارات سنويا كزكاة من الأغنياء، ولكنها للأسف توزع بشكل غير منضبط، فالغني الذي يخرج زكاته يوزعها بنفسه، ولو كان هناك صندوق للزكاة تابع للحكومة وجمعت أموال الزكاة فيها ووزعت وفقا لمعايير محددة، لا أتصور أن يبقى في عموم كردستان فقير أو معوز واحد، تصور أنه في العام الماضي استخرجت أموال زكاة الفطر فقط بما يزيد على خمسة وأربعين مليون دولار، ولكنها وزعت بشكل عشوائي ودون أي معايير محددة».
ولفت متحدث وزارة الأوقاف إلى ظاهرة لجوء عدد من التلفزيونات المحلية إلى الدعاية للتسول، حيث اعتادت بعض القنوات المحلية عرض صور ولقاءات مع الكثير من العائلات الفقيرة في المدن، والطلب من الأغنياء التبرع لهم، وهذا ما يشجع على شيوع الظاهرة، وينبغي على تلك القنوات أن تتوقف عن بث تلك المشاهد التي تستغلها باعتقادي من أجل الكسب الحزبي ليس إلا».