علماء ألمان يتحدثون عن إسمنت أقوى من الحديد

يتميز بأنه أخف وزنا من الإسمنت التقليدي وأكثر متانة بعدة مرات وأقل ضررا على البيئة

جسر حديقة الكاسل الذي بني بالإسمنت الفائق الكفاءة
TT

تستخدم البشرية الإسمنت التقليدي منذ نحو 250 سنة، ومنذ ذلك الحين تستخدمه بمليارات الأطنان سنويا في أعمال البناء. ومنذ عدة سنوات يتحدث مهندسو البناء عن إسمنت جديد اسمه «الإسمنت الفائق القدرة»، ويعتبر من الابتكارات التي ما زالت في طور التجارب، إلا أن علماء ألمان وأميركان قالوا مؤخرا إن الإسمنت تم إنتاجه واستعماله فعلا في البناء في بعض المشاريع التجريبية.

ويتميز النوع الجديد من الإسمنت العالي الفعالية (Ultra High Performance ConcreteUHPC) بأنه أخف وزنا من الإسمنت التقليدي، وأكثر منه متانة بعدة مرات ثم أنه أقل ضررا على البيئة. فضلا عن ذلك فإن استخدام الإسمنت «الطويل العمر» سيضاعف عمر الأبنية والجسور، ويقلل الحاجة لترميمها ويقلل بالتالي، عند استخدامه في بناء الطرق، ظاهرة الزحام وتوقف حركة السيارات على الطرقات السريعة. و«UHPC» يتطلب عمليات إنتاج بسيطة لا تطلق الكثير من غاز ثاني أكسيد الكربون، وتقترب قوته من قوة الفولاذ. البروفسور ميشائيل شميدت من جامعة كاسل، التي تحدثت كثيرا عن تجاربها لإنتاج الإسمنت العالي الكفاءة UHPC، قال إن الإسمنت ما عاد مشروعا أو حلما، وإنما تم استخدامه فعلا في كاسل لبناء جسر تجريبي في حديقة. واحتاج المهندسون في بنائه إلى نصف الكمية من الإسمنت التقليدي اللازمة لبناء أي هدف مماثل، ولكن بمتانة وعمر مضاعفين. وتم في مختبرات جامعة كاسل إنتاج مسطرة من إسمنت سمكها 15 سم فقط، مخصصة لبناء الطرقات السريعة، لكنها تتحمل ثقل شاحنة من حمولة 40 طنا دون أن تنكسر. ومعروف أن بناء الطبقة السفلى من الشوارع السريعة يتم باستخدام ألواح من الإسمنت التقليدي سمكها 30 سم. وذكر شميدت أن قوة أي إسمنت تقررها شكل كريستالات الإسمنت النانوية التي تشكل مع محيطها الفراغي بنية مادة البناء. الإسمنت التقليدي مؤلف أساسا من هيدرات الكالسيوم والسيلكون، ويبدو تحت المجهر بشكل كريستالات ذات زوايا. وتشكل الكريستالات ومحيطها من الرمال والحصى بنية هذا الإسمنت، وهنا تمكن مشاهدة وجود فراغات تتشكل مع بعضها وتؤلف شبكة أقنية يتسلل منها الماء والغاز الضار ليشكل شروخا في بنية الإسمنت. في حالة UHPC تم تغيير شكل الكريستالات لتصبح مثل اكزالات الكالسيوم في حصى الكلية كي تتصل مع بعضها وتؤلف نسيجا واحدا قويا، ثم إنه تم ملء الفراغات بالبوليمرات التي تحول الإسمنت، بعد أن يتصلب، إلى بنية شبيهة بغلاف الأصداف البحرية (من مركبات الأملاح المحتوية على الاراغونيت).

وطبيعي فقد جرى هنا تقليد الطبيعة (الأصداف) لإنتاج هذا النوع المتين من الإسمنت. وهذه البنية لا تسمح للماء والغازات والأملاح بالتسلل إلى داخل الإسمنت وتخريبه. ولذلك فالأسمنت الجديد يحتوي من الإسمنت (الكريستالات) ثلاثة أضعاف ما يحتويه أفضل إسمنت تم اختراعه حتى الآن. وبالتالي فإن UHPC أمتن 7 - 10 مرات من سابقيه، وأقل وزنا بنسبة 50 في المائة حسب تقدير الباحث.

تقول وزارة النقل الألمانية إن 14 في المائة من الجسور المنصوبة على شبكة الطرقات السريعة، بحاجة إلى ترميم. ولو عرفنا أن هناك 120 ألفا من هذه الجسور في ألمانيا لعرفنا المبالغ التي يتكبدها الترميم كل سنة. هذا فضلا عما يتسبب به ذلك من احتباسات وزحام على الطرقات، بجانب كل الغازات المنطلقة عن السيارات التي تقف في الزحام. وتقدر الوزارة عمر الجسر الحديث بين 80 - 100 سنة لكن شميدت يرى ذلك «تفاؤلا» من قبل المختصين، ويدعو المسؤولين الألمان لاعتماد الإسمنت العالي الكفاءة في حل كل هذه المشكلة بتكلفة أقل ودفعة واحدة. قد يصبح سعر طن الإسمنت الفعال UHPC في بداية انتشاره أكثر من سعر الإسمنت التقليدي، لكن استخدامه على مر الزمن سيوفر فرقا ماليا أكبر لصالح الوزارة. فهو أقل وزنا، وأكثر قوة ثم إنه سيرفع عمر الجسر إلى 150 - 200 سنة (250 سنة في حالة الأبنية). ولا ننسى الطاقة هنا، لأن إنتاج الإسمنت التقليدي بشكل مسحوق ناعم يتطلب استخدام طاقة حرارية ترتفع إلى 1400 مئوية في حين أن إنتاج UHPC يتطلب طاقة تبلغ نصف هذا الرقم.

من ناحيته، أكد البروفسور فرانز يوزيف أولم، الألماني العامل في مختبرات معهد ماساتشوستس التقني في الولايات المتحدة MIT، أن الإسمنت الفعال تم استخدامه في بناء جسور وأبنية في كنتاكي وفرجينيا وأيوا. والإسمنت الذي استخدم في بناء جسر كنتاكي يبلغ سمكه 7.5 سم بدلا من المعتاد (21 سم). وهناك مشاريع لبناء أبنية في كيبيك الفرنسية وفي إسبانيا. وقوة الإسمنت الجديد تقارع الحديد، لأنها 7 مرات أقوى من أي إسمنت آخر سائد في السوق، ويمكن له أن يضاعف عمر الجسور والأبنية.

وفي رأي أولم، فإن الجانب البيئي لا يقل أهمية عن الجوانب الاقتصادية والهندسية التي يوفرها الإسمنت الجديد. فصناعة الإسمنت مسؤولة، حسب تقارير الأمم المتحدة، عن انبعاث 5 في المائة من مجموع غاز ثاني أكسيد الكربون على المستوى العالمي. وللمقارنة فإن كامل حركة الطيران في العالم مسؤولة عن 3 في المائة من مجموع الغاز المنبعث. وينبعث ثلاثة أرباع الطن من غاز ثاني أكسيد الكربون عند إنتاج واستخدام طن واحد من الإسمنت التقليدي. ونصف هذه الكمية من الغاز ينبعث فقط أثناء عملية تحضير الإسمنت بحرارة عالية.

يذكر أن مصادر الأمم المتحدة تقدر وزن الإسمنت المنتج على المستوى العالمي بنحو 25 مليار طن سنويا، أو طنين، أو متر مكعب من الإسمنت، لكل مواطن على كوكب الأرض. هذا يعني أن بإمكان البشرية أن تقلل انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون إلى النصف في حال تحولها إلى الإسمنت الجديد الفائق الكفاءة.