مقهى «سيتي كافيه».. نادي السياسيين والمثقفين يقفل في بيروت

بعدما شكل محطة يومية للخصوم والأصدقاء

«سيتي كافيه» أبوابه بعد 16 عاما معلنا انتهاء خدمته الثقافية في منطقة قريطم في بيروت
TT

على غرار نهاية المقاهي البيروتية التي شكلت محطة في ذاكرة اللبنانيين، ها هو اليوم يقفل «سيتي كافيه» أو «مقهى المدينة» أبوابه معلنا انتهاء خدمته الثقافية في منطقة قريطم في بيروت، بانتظار انتقاله إلى مكان آخر في العاصمة لم تحدد وجهته بعد. هذا المقهى الذي شكل ملتقى المثقفين والصحافيين والسياسيين وشهدت جدرانه على ولادة كتب وروايات ودواوين شعرية، وكان ساحة لمعارض أعمال فنانين شباب ومخضرمين، ونقطة لقاء ونقاشات سياسية، ارتأى صاحبه، منح دبغي، أن يحيله معه إلى التقاعد بعد عمل 16 عاما، ويودع أصدقاءه الرواد الذين لطالما شكلوا نبض المقهى على امتداد ساعات النهار والليل. السبب المعلن لقرار الإقفال الذي أكده عمر دبغي، ابن صاحب المقهى، للـ«الشرق الأوسط» هو «أنّ الوالد تعب ويريد أن يرتاح»، في حين نفى أن يكون للقرار أي خلفيات سياسية باستثناء تحول منطقة قريطم إلى منطقة أمنية أدت في بعض الأحيان إلى تراجع نسبة الزبائن، يشير أحد روادها الدائمين إلى أن السياسة دخلت في المرحلة الأخيرة على خط جلسات «مقهى المدينة» بين أنصار فريقي 8 و14 (آذار)، من دون أن يعني ذلك أنه كان السبب في إقفالها.

من جهة أخرى، شكل موقع «مقهى المدينة»، إلى جانب الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت، سببا إضافيا كي يكون ملتقى جامعيا للطلاب، بعيدا عن الأجواء الأكاديمية، ليطلق العنان بين جدرانه للقاءات العاطفية حينا والسياسية حينا آخر.

هذه الأجواء التي طبعت «سيتي كافيه» منذ افتتاحه في عام 1995 لغاية إقفاله منذ أيام عدة، هي نفسها التي انتقلت مع منح الدبغي من شارع الحمرا في بيروت، بافتتاحه أولى مقاهي الرصيف اللبنانية التي حملت اسم «هورس شو» في عام 1959، على غرار شوارع باريس وغيرها في المدن الأوروبية، حين كانت لا تزال المزروعات والأشجار تغطي مساحات شاسعة منه، ليشكل انطلاقة هذا الشارع البيروتي بمقاهيه التي كان يزيد عددها يوما بعد يوم، وأهمها «كافيه دو باري» والـ«مودكا» والـ«ويمبي».. وبعد هذه الانطلاقة تحول شارع الحمرا إلى ملتقى جامع للوجوه والشخصيات الاجتماعية والثقافية التي أخذت منه محطة يومية تجمعهم في نشاطاتهم ولقاءاتهم، ولكن بعد أقل من عشرين عاما، ومع اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، كانت نهايات بعض هذه المقاهي تكتب الواحدة تلو الأخرى، في حين أن بعضا منها عاد وافتتح بعد انتهاء الحرب، إلا أن قدرها لم يكن مختلفا عن اللاتي سبقنها، فعادت بدورها وأقفلت نهائيا وذهبت إلى غير رجعة بذكرياتها الحلوة والمرّة، ليتحول معظمها إلى محلات لبيع الألبسة أو مطاعم للمأكولات السريعة.

مع العلم أن منح الدبغي، صاحب مقهى «سيتي كافيه» الذي كان يملك الـ«هورس شو»، رفض في السنوات الأولى من اندلاع الحرب الأهلية بيع مقهاه، وارتأى في عام 1978 أن يتولى شخص غيره إدارته من خلال عملية استثمار، قبل أن يتم تفجيره في عام 1982 ويقرر حينها الاستغناء عنه كليا وبيعه مع الاسم الذي اشتهر به ويهاجر إلى كندا. ويضيف عمر الدبغي: «ولكن بعد أن وضعت الحرب أوزارها، قرر والدي الذي يهوى الفن ويهتم بالثقافة، في عام 1995 أن يعيد افتتاح مقهى آخر في بيروت بعد أن أعرب عن ندمه لتخليه عن اسم المقهى القديم (هورس شو)، ووقع حينها الاختيار على منطقة قريطم الراقية والهادئة، وعلى اسم جديد هو (سيتي كافيه) مع المحافظة على طابع الـ(هورس شو) وأجوائه التي كانت كفيلة بدورها باستقطاب الرواد القدامى أنفسهم، ورواد جدد وجدوا في هذا المكان كل ما تتطلبه الجلسة الهادئة والغنية، من الرفقة والطعام اللذيذ والشراب. وكما الـ(هورس شو) بل أكثر منه نجح (سيتي كافيه) في جذب اللبنانيين والعرب وشخصيات معروفة سياسية وفنية واجتماعية، فكان على سبيل المثال جار المقهى رئيس الحكومة الراحل، رفيق الحريري، أحد أبرز رواده الدائمين، وهو الذي كان يطلق عليه تسمية (النادي) حيث كان يجتمع مرتين أسبوعيا مع أصدقائه من الشخصيات السياسية وزوجته».

ويلفت الدبغي إلى أن جلسة الحريري التي كانت تبدأ بشخصين في الـ«سيتي كافيه» تنتهي بعشرين شخصا. ويتذكر قائلا «كان يستغل عدم وجود السيدة نازك معه في بعض الأحيان ليطلق العنان لشهيته بعيدا عن رقابتها، ويقول للنادل: نازك ليست هنا أحضر لي البوظة».

ويشدد الدبغي على أن الاختلافات السياسية لم تنسحب على رواد المقهى من السياسيين على اختلاف انتماءاتهم، إذ إنه في حين كانت طاولة شبه محجوزة بشكل دائم لشخصيات في الحزب السوري القومي الاجتماعي، كانت هناك طاولات لشخصيات من أحزاب معارضة وخصوم له، ويضيف: «كانوا يلتقون ويلقون التحية، وفي بعض الأحيان يجلسون على طاولة واحدة بعد يوم واحد من حصول (المعارك) فيما بينهم في المجلس النيابي». وكذلك من بين هذه الشخصيات أيضا، كان رئيس الجمهورية السابق، إميل لحود، والنواب نهاد المشنوق وإيلي الفرزلي وميشال سماحة وميشال المر، ومن الفنانين زكي ناصيف، والمخرج المصري يوسف شاهين وغيرهم.

وعند سؤال دبغي عما إذا كان إقفال «سيتي كافيه» سيكون نهائيا أم أنه سينتقل إلى مكان آخر في بيروت يجيب: «هذه المرة لن نتخلى عن الاسم، وبالتالي هناك مخطط لإعادة افتتاح (سيتي كافيه) من جديد مع المحافظة على الطابع نفسه، لكن لم تحدد الوجهة لغاية الآن».