جدار برلين.. مزار فني وسياحي بطول 120 كيلومترا

بعد 50 عاما لا يزال يداعب مخيلة الألمان

المستشار الألماني هيلموت كول مع بعض الأطفال الألمان في حديقة منزله التي تحتوي جزءا من الجدار ويظهر عليها بعض من أعمال الفن الغرافيتي التي قدمت إليه من دار نشر «الكسيل سبرينغر» كونه رمز توحيد ألمانيا إذ سقط الجدار خلال وجوده في الحكم (رويترز)
TT

بحلول وقت سقوطه عام 1989 أضحى حائط برلين، الرمز الأخير للحرب الباردة، من الأشياء الجمالية التي تلقى هوى الناس.

وفي حين اختفى الجدار، فإن النمط الفني الذي كان باعثا على الإلهام لا يزال باقيا، حيث بدا ذلك في الشوارع وواجهات المباني في برلين الحديثة، وهو ما حول المدينة إلى مزار لفن الشارع مستقطبا رموزا شهيرة، مثل الرسام الغرافيتي البريطاني بانكسي. ويتذكر تيري نوار، وهو رائد فن الجدار والمسؤول عن بعض أشهر رسوماته، كيف بدأ الأمر.

ولم يكن باديا على الإطلاق في البداية أن مثل هذا الشيء المرعب يمكن أن يتحول بصورة أشبه بالمعجزة إلى عمل فني. ولم يكن يتخيل الجنود الذين بدأوا في تشييده قبل نصف قرن من الزمان أنهم، مثلما يصنعون أداة للمعاناة والاحتواء والتقسيم، ينسجون قطعة هي الأكبر في تاريخ الفن.

في هذا الصدد قال نوار: «في البداية لم يفهم أحد ما نعمله. وكانوا يسألوننا من الذي يدفع لكم؛ حيث اعتقد الناس أننا مرسلون من قبل مكتب المباحث الفيدرالي (إف بي آي) أو وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) بهدف تحسين شكل الجدار».

وقال الفنان نوار لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ): «لم يعتقد أحد أننا من الجنون إلى حد أننا نتحمل نفقات ذلك بأنفسنا».

وجاء نوار إلى برلين الغربية من موطنه الأصلي فرنسا في عام 1982. «في ذاك الوقت لم يكن يوجد سوى بضع رسومات على الجدار، معظمها عن رسومات صغيرة وشعارات عنصرية أو معادية للولايات المتحدة ورسائل شخصية أو مضحكة.. وفي بعض المناطق لم يكن يوجد بها أي شيء، هي مجرد كيلومترات من الجدار الخالي».

في واقع الحال لم يكن الجدار الذي برز للوجود في 13 أغسطس (آب) 1961 ملائما في حقيقة الأمر لكي يتم طلاؤه. فقد كان عبارة عن حواجز على شكل حرف «إل» ارتفاعها 3.6 متر فقط. وكانت مقامة بطول الجدار اعتبارا من عام 1975، وهو ما وفر سطحا ملائما للفنانين.

نوار بدأ عمله في 1984 حيث قام برسم الرؤوس الدائرية المميز بها في مربعات من الألوان الفاتحة. ثم انضم إليه فنانون، مثل صديقه ومواطنه كريستوف بوشيه وجان دوسيه وكيدي سيتني. وفي عام 1986 أضاف كيث هارينغ أشكالا بديعة.

وهكذا لم يعد «جدار الخزي»، حسبما يقول نوار، من المحرمات، وبدلا من ذلك صار، بعد أن كان شيئا لم يكن الألمان يريدون رؤيته على الإطلاق أو زيارته مرة واحدة في السنة، مزارا فنيا وسياحيا بطول 120 كيلومترا.

وقال نوار: «الجدار سقط ولكن عاش هذا النمط من الفن والناس الذين رسموا على الجدار هم الذين خلقوا نمطا، دون اللجوء إلى الكثير من التفاصيل، وكانوا يرسمون بسرعة فائقة. هذا الشكل من الفن يظل حاضرا في أنحاء المدينة».

واليوم، تعد برلين واحدة من العواصم الكبرى لفن الشارع الذي صار مشهورا في العالم بفضل فنانين مثل بانسكي الذي تظهر رسوماته المفعمة بالسياسة على الجدار، الذي شيدته إسرائيل على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.

في أنحاء برلين صارت الجدران والجسور ومداخل وواجهات المباني تعج برسومات الغرافيت، وهو ما حول المدينة إلى صالة فن ضخمة مفتوحة. هذا التطور يثير إعجاب نوار، لكنه لم ينس كيف بدأ الأمر. إذ يقول: «الجدار كان خاليا من أي مظهر جمالي، وكان أشبه بوحش مرعب».

لكن فكرة جعل هذا «الوحش» أكثر جمالا لم ترق لأحد. فقد قام خمسة نشطاء في عام 1986 برسم خط أبيض بطول الجدار، لشد الانتباه إلى أهدافه، ولتذكير المواطنين بالرعب الذي يمثله. وعلى نحو مماثل تقدم الفنان الألماني، جوزيف بويس، باقتراح مثير للجدل للسلطات بأن يتم زيادة ارتفاع الجدار بمقدار خمسة سنتيمترات لتحسين أبعاده. وأوضح بويس للمواطنين الذين لم يتقبلوا اقتراحه في شرق وغرب ألمانيا أنه من الممكن عن طريق إضفاء لمحة جمالية على الجدار إزالة وقع الرعب منه.

وخلص بويس إلى نتيجة مفادها «الجدار في حد ذاته غير مهم بالمرة. دعونا لا نتحدث كثيرا عن الجدار. وعلينا بتحسين مستوى الأخلاق، وعندها سوف تختفي جميع الجدران».

وبعد 50 عاما لا يزال سور برلين يداعب مخيلة الألمان. كتب جديدة حول الموضوع بدأت تُطرح، كما تقام معارض وأعمال سينمائية وندوات لبحث القضية، والهدف منها جميعا محاربة آفة النسيان. شهادة وفاة غونثر لتفين كتب فيها: 24 أغسطس (آب) 1961، 4:15 مساء: وفاة على يد أجنبية، رصاصة اخترقت الرقبة وقاعدة الفم، مع الغرق».

كان لتفين، 24 عاما، أول من قتله حراس الحدود من الجانب الألماني الشرقي لحائط برلين. كان حائك الملابس يريد السباحة لألمانيا الغربية من مرفأ همبولت. لم يكن جونثر ليتخيل مطلقا أن تصوب الأسلحة نحو لاجئين، حسبما قال شقيقه يورجن. تدبر يورجن أمر شهادة الوفاة بعد أن سمع عن محاولة الفرار الفاشلة التي راح شقيقه ضحيتها، على شاشة تلفزيون ألمانيا الغربية.

حياة لتفين القصيرة رواها كتاب تحت عنوان «الحائط حقائق.. صور.. مصائر» نشرته دار «بايبر» للنشر قبل نحو شهر من الذكرى الخمسين لذكرى إنشاء الحائط.

قام كاي دايكمان، رئيس تحرير صحيفة «بيلد» الألمانية واسعة الانتشار، بنشر الكتاب كي تبقى ذكريات ديكتاتورية الحزب الاشتراكي الألماني الذي حكم ألمانيا الشرقية، حية في الأذهان. وكتب دايكمان في عرضه للكتاب «لا يعرف قيمة الحرية إلا من حرمها»، وأضاف: «لكن حائط برلين الآن مهدد بالضياع في غياهب النسيان، كرمز الانقسام».

الكتاب المؤلف من مائتي صفحة يحوي حقائق تاريخية عن أسباب انقسام الألمانيتين. وانهيار حائط برلين ونظرة تمحيص جديدة على الديكتاتورية.

كما يقدم الكتاب صورا مؤثرة ووثائق تشمل خطة تحرك وقع عليها إريك ميلكه قائد الشرطة السرية - اشتازي أو جهاز أمن الدولة - لترحيل رولاند يان، المفوض الاتحادي الحالي المختص بسجلات اشتازي. الكتاب يسرد شهادات الكثير من شهود العيان.

يقول قائد دبابة سابق في ألمانيا الشرقية عندما يتذكر بناء الحائط: «لست فخورا بأني كنت هناك كجندي». يروي الكتاب أيضا حكاية مثيرة عن مغامرة فرار ناجحة لأسرتين من ثورينجيا لبافاريا بمنطاد يعمل بالهواء الساخن تمت حياكته باليد.

الدراسات تؤكد أن 136 شخصا على الأقل، بينهم الكثير من الأطفال لقوا حتفهم قتلا عند حائط برلين. عندما غرق صبي لا يتجاوز عمره الثمانية أعوام من ضاحية كروتسبرج عام 1972 في نهر سبري، الذي كان يتبع ألمانيا الشرقية، جرى منع شرطة ألمانيا الغربية من التدخل لإنقاذه.

كما ينتقد المسؤولون عن نشر الكتاب حقيقة أنه بعد ما يزيد على عشرين عاما بعد إعادة توحيد شطري ألمانيا، لم يحدث بحث واحد للوقوف على العدد الحقيقي للضحايا الذين سقطوا عند ذلك الجدار الحدودي الداخلي. الكتاب خرج للنور بفضل تعاون مع «المؤسسة الاتحادية لتصالح ديكتاتورية الحزب الاشتراكي»، وكتبه المؤرخ أولريخ ميلرت من المؤسسة، وكذا رالف يورج روث وهانس فيلهلم من صحيفة «بيلد».