أوبرا «القنصل السري» تتبنى تكتيك حرب العصابات للتقرب من الجمهور

مستمرة منذ خمسين عاما.. ومهاجرون يمثلون عذاباتهم في عرضها الجديد بلندن

مشهد 2 من الأوبرا و مشهد 3 من الأوبرا
TT

«دعونا نحرق كل الأعلام..

أعيدوا الأرض كلها لنا..

وحررونا..

إنها هدية الآلهة لنا»..

كانت هذه هي الكلمات التي صرخ بها اللاجئون في لندن في الأغنية التي ينشدها كورس أوبرا «القنصل السري» في قاعة «لايمهاوس»، شرق لندن. عند مدخل المسرح، كانت هناك صحف روسية وصور لجوازات سفر مرسومة على الجدران، وحقائب منتشرة بشكل غير مرتب على الحيطان. وكان هناك حشد كبير من جميع الأعراق ومختلف الأعمار منتظرين في القاعة، منهم من يجلس ومنهم من يقف، وبعضهم ينحني على السلم، بينما تجلس سكرتيرة شقراء ترتدي ملابس ضيقة وبلوزة بيضاء تطالبك عند المدخل بإظهار جواز سفرك أو أوراقك. في مثل هذه اللحظات، تكون عاجزا عن معرفة هويتك الذاتية، إذ يتم توصيفك من خلال رمز شريطي، ثم يأخذونك بقوة إلى إحدى الزوايا البعيدة، حيث يفترض بك أن تكون هناك لمشاهدة العرض بعد اقتحام الكورس. ثم تبدأ عملية الانغماس بين الجمهور وأداء الممثلين، مما يغير الحدود بين الهويات، وبين الواقع والسريالية، من خلال ساحر وتنويم مغناطيسي وسلسلة من الكوابيس، التي سنراها لاحقا.

وهكذا ندخل في عالم أوبرا «القنصل»، التي بدأت أول عروضها في الخمسينات من القرن الماضي من قبل جيان كارلو مينوتي، مع إضافة كلمة «السري» إلى العنوان في العرض الجديد، ليوحي ويذكر بتلك الأعمال الفنية، التي تجري تحت الأرض في ظروف القمع. إنه، أيضا، نوع من أنواع «الأداء السري»، وهي بدعة توصل إليها الفنانون من خلال تحويل مكان مهجور إلى فضاء مسرحي ملأوه بالحديد والأحجار ليوحوا بسريته ووحشته.

ويتركز جوهر أوبرا مينوتي حول مسعى ماجدة سوريل للفرار من ديكتاتورية بلد أوروبي لم يتم ذكر اسمه، ليس فقط لتلتحق بزوجها المعتقل في بلد آخر على يد الشرطة السرية بحجة مهاجمته أحد الرجال في القنصلية، وإنما لتنقذه أيضا. تفشل ماجدة ويموت طفلها وتنتحر في نهاية المطاف.

لقد نجح المخرج ستيفن تيلر ومدير الموسيقى أندرو تشاريتي - اللذان عملا معا أيضا في أوبرا «بوهيم» الحائزة لجائزة أوليفر - في إكساب العمل كله بعدا معاصرا، حيث الاستجوابات والتعذيب، وعالم من بشر بلا أوطان.. وجلاديهم أيضا.

يقول المخرج تيلر لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الناس يرون الأوبرا من خلف المقاعد التي يجلس فيها النقاد في الصف الأمامي. أنا لست مهتما حقا بالأوبرا على هذا النحو، لكني مهتمة فقط بالهدف الذي يمكن أن تحققه الأوبرا، مثل جذب الجمهور. ويبدو أن تكتيك حرب العصابات يمكن أن يكون تجربة تفاعلية، حيث يمكن التحرك بين فناني الأوبرا، وهم معظمهم مهاجرون (على وشك التعرض للطرد). إنهم يتنقلون من زاوية إلى أخرى ومن عالم إلى آخر. وقد ساعد هذا الارتباك على إبراز نفسياتهم ومحنتهم، وكذلك على انصهارهم في العرض».

ويضيف تيلر «لقد فقد المسرح قدرته على سلخك من نفسك. لقد أراد مينوتي أن يجلب الأوبرا للناس، ويعد هذا شيئا طبيعيا للغاية». ومينوتي هو ملحن وقائد للفرقة الموسيقية وعازف بيانو ومؤلف كلمات الأوبرا. وحقق نجاحا ملحوظا في المسارح الأميركية من خلال التكيف مع الصفات التقليدية للأوبرا الإيطالية، ممثلة ببوتشيني والملحنين الواقعيين. وفي بعض الأحيان كانت له هناك صدامات مع السلطات بسبب رفضه الاشتراك في «اللعبة السياسية»، بالإضافة إلى الانتقادات بأنه «انتقائي للغاية، وعاطفي في أغلب الأحيان ومبتذل في أحيان أخرى». لكن الجمهور يتفاعل كثيرا مع أعماله مثل «الوسيط» و«التليفون» و«القنصل»، التي لا يمكن إنكار روعتها الدرامية وجودتها، إذ ظل عرضها محافظا على زخمه طوال 50 عاما، لا سيما بعد تحديثها، كما في هذا العرض، الذي يعالج موضوع الهجرة.

وعلى الرغم من الأداء الأجش لبعض المطربين، فإن المشاركة والدمج بين المحترفين والهواة خلقا أجواء من القوة والكثافة التي تغرق فيها المشاهد بالكامل. إنه مسرح حقيقي، وليس متخيلا. ويصل العرض لذروته في عكسه معاناة العائلة المضطهدة، التي تحاول الحصول على تأشيرة خروج، لكنها ترفض لتترك لمعاناتها. أما فقدان ماجدة لطفلها، فهو مشهد لا ينسى، إذ يأخذها عضو شاب في الكورس (آيتين سويلو) بعيدا عن الجثة، مصحوبا برثاء تركي عن الفلاحين المعذبين. وتؤدي دور ماجدة، الزوجة يائسة لسياسي معارض، السوبرانو الأوكرانية ليزا أليكسيفا التي تعطي الدور شحنة درامية عندما تكون في مواجهة سكرتيرة القنصل، حيث تغني في حالة من اليأس قائلة «ما هو عمري؟ ما زلت صغيرة.. ما هو عملي؟ إنه الانتظار». وهناك أيضا لحظات حميمية نابعة من القلب تبعثها الأغنيات الأوكرانية الشعبية، التي نسمعها في العرض أيضا إلى جانب الأغنيات التركية. ومن الصعب لنا أن تتخيل مدى الشحنات الكامنة في الكلمات الأصلية، التي تحكي محنة هؤلاء المهاجرين.

عرض «القنصل السري» عامل مساعد للأوبرا لكي تتخذ اتجاها جديدا.