قرية حسن فتحي بالقرنة تستغيث باليونيسكو لإنقاذ ما تبقى منها

تحفة معمارية من الطوب «اللبن» ضربها الإهمال وتجاهل المسؤولين

بيوت القرية تعاني من التصدع والإهمال ومزاحمة البيوت الإسمنتية لها
TT

كانت المتانة والدقة الهندسية لمخازن قمح «الرامسيوم» بمدينة الأقصر المصرية، المبنية من الطوب اللبن والمسقوفة بالقباب المبنية منذ أكثر من 3000 عام، سببا رئيسيا وراء إصرار المهندس العالمي حسن فتحي على بناء قرية القرنة الجديدة بمكونات من الطوب اللبن والطين.

وعلى بعد أمتار قليلة من المدخل الغربي لمدينة الأقصر، تقبع قرية القرنة الجديدة أو قرية «حسن فتحي»، صامدة بما تبقى بها من بيوت طينية أثرية، تتحدى الانقراض والعوامل الجوية والبشرية.. ولكنها تبحث عن منقذ يعيد ترميمها، وينقذها من تجاهل المسؤولين وتحرش المعتدين بمبانيها، على الرغم من تجريم القانون لهدمها أو التعرض لها بسوء.

القرية أنشاها المهندس العالمي حسن فتحي في أربعينات القرن الماضي للمهجرين من المقابر الفرعونية بالبر الغربي بالأقصر، وذلك من أجل إنقاذ المقابر الفرعونية من السرقات والتعديات التي كانت تتم فيها، ولتوطين 7 آلاف أسرة صدر قرار بتهجيرهم من المقابر، وإقامة مساكن بديلة لهم.

ولما كان حسن فتحي مختلفا عن أقرانه من المهندسين والبنائين الذين يكتفون برص الأحجار لتعلية الأبنية، نظرا لعشقه للتراث الإنساني المصري والإسلامي، فقد حرص على أن يتفاعل مع الأهالي المتضررين والمهجرين من القرنة القديمة، واستمع إلى مطالبهم واحتياجاتهم في مساكنهم الجديدة، ودرس الميول النسبية والحضارية للأهالي لكي تتواءم البيوت الجديدة مع أذواقهم واحتياجاتهم.

بدأ حسن فتحي المرحلة الأولى من مشروع بناء القرية ببناء 70 منزلا، حمل كل منزل منها سمة مميزة عن المنزل المجاور له حتى لا يختلط الأمر على سكان القرية، مما وفر عليه استخدام لافتات للبيوت.

واعتمد فتحي في تصميم المنازل على الخامات والمواد المحلية، وظهر تأثير العمارة الإسلامية واضحا على طبيعة منازل القرية، ومن تلك العناصر مراعاة الخصوصية، حيث الأبواب التي تنفتح على اتجاهات لا تكشف الرؤيا على ما بداخل المنزل.. ولكن أبرز العناصر كانت القباب الرائعة التي تعلو المنازل، بدلا من الأسقف التي تعتمد على الألواح الخشبية أو الأسياخ الحديدية المعتادة.

وأظهرت تلك القباب بوضوح أن روح الفنان لم تتخل للحظة واحدة عن حسن فتحي، أو تتوارى خلف صلف الحسابات الهندسية الدقيقة؛ إذ إن معايير الدقة لم تطغ على اهتمامه باللمسة الجمالية أو التناغم مع البيئة ومع ساكني البيوت.

وظهر ذلك الاهتمام أيضا في تخصيص فتحي بابا إضافيا بالمنازل للحيوانات والماشية، التي يقتنيها سكان المنطقة، كنوع من أنواع العزل الصحي، حفاظا على سلامة الأفراد.

وعلى الجانب التعليمي قام فتحي بتشييد 3 مدارس بالقرية؛ الأولى للأولاد، والثانية للبنات، أما الثالثة فكانت مدرسة لتعليم الحرف اليدوية التي اشتهرت بها منطقة القرنة، مثل الألباستر والغزل والنسيج وصناعة منتجات النخيل، كما حاول من خلال هذه المدرسة الحفاظ على روح الإبداع الفرعونية في الأجيال الجديدة.

ومثلما اهتم فتحي بالجانب التعليمي لم يغفل الجانب الديني الذي يميز أهل القرية، أو الجانب الترفيهي لتعويضهم عن منازلهم التي تم تهجيرهم منها عنوة.. فعمل فتحي على إنشاء مسجد كبير في مدخل القرية حمل أجمل الطرز المعمارية في تصميمه، فقد تأثر فيه بالفن المعماري الطولوني ممتزجا مع الفن الفاطمي، إلا أن المسجد عانى كثيرا من تحرش وزارة الأوقاف به وتدميرها للشكل المعماري الإسلامي.. وعن الجانب الترفيهي قام فتحي بإنشاء قصر ثقافة حمل اسمه، ومسرح مبني على الطراز الروماني، إلى جانب حمام سباحة.

أحمد عبد الراضي، مسؤول مشروع الترميم بالقرية، وأحد سكانها، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «سكنت في هذه القرية منذ كان عمري 10 سنوات، بعد تهجيرنا من المقابر الفرعونية التي كنا نقيم بها منذ القدم، وقد شعرنا بالارتياح في هذه القرية لأنها حملت نفس الطابع الذي كنا نعيش فيه».

ويشير عبد الراضي إلى أنه على الرغم من قيام عدد كبير من أهالي قرية حسن فتحي بهدم منازلهم الطينية وبنائها بالإسمنت، فإن المنازل المتبقية ما زالت لها مكانتها وأهميتها لدى من يفهمون طبيعتها، فهناك الكثير من أثرياء العالم يطلبون بناء منازل مبنية من الطين، لأنهم شعروا بقيمة هذه العمارة.

ويشكو عبد الراضي من أن المسجد تم تدمير عمارته الإسلامية، والمسرح مهمل، والسوق السياحية تحولت إلى مخزن للأسمدة ومأوى للحشرات، والسوق العامة تقاسمها مجلس المدينة وشركة المطاحن لإنشاء جراج (مرأب) ومخزن.

وأكد عبد الراضي أنه قام بعمل أفلام تسجيلية عن قرية القرنة الجديدة (حسن فتحي)، وقال: «لقد تقدمت باستغاثة للمسؤولين أكثر من مرة أنا والمهتمون بالتراث القديم لإنقاذ ما تبقى من قرية حسن فتحي، إلا أن المسؤولين هنا لا يستجيبون، كما قمت بمخاطبة هيئة اليونيسكو من خلال الأفلام التسجيلية التي قمت بإنتاجها لتبني مشروع ترميم قرية حسن فتحي، لأنها تراث معماري لا يعوض».

أما الدكتور عمار أبو بكر، الأستاذ بكلية الفنون الجميلة بالأقصر، فيقول: «لا ننكر أن اليونيسكو لها دور كبير في محاولة ترميم بيوت قرية حسن فتحي، فاليونيسكو أسهمت معنا بـ9000 دولار قمنا من خلالها بترميم الخان، لكن مطلوب دور أكبر من اليونيسكو لإنقاذ ما تبقى، فالحكومة المصرية لا تفكر في ترميم القرية أو حتى محاولة إنقاذها من الضياع، لذا نناشد هيئة اليونيسكو، مرة أخرى، لإنقاذ قرية حسن فتحي، كما نعدهم بأن الوضع قد تغير كثيرا، بعكس الأيام الماضية التي كانت الحكومة تقف عقبة أمام تطوير القرية، وتبحث لنفسها عن مكاسب مادية من اليونيسكو من وراء مشروع الترميم».

وكشف دكتور أبو بكر النقاب عن تقرير قامت بإعداده الدكتورة ليلى الوكيل من جمعية محبي حسن فتحي بجنيف، أدانت فيه موقف المسؤولين المصريين تجاه قرية حسن فتحي، وقيامها بالبناء فوق منازل القرية.

أما محمود أحمد، ساكن آخر بالقرية، فيقول: «لم يتبقَّ من بيوت القرية منذ نشأتها سوى 16 بيتا فقط، بعد انهيار الكثير منها واتجاه الأهالي إلى البناء بالخرسانة.. وهو ما أدى إلى تشويه المنظر والطابع الجمالي والمتميز للقرية».

يضيف محمود: «إن السكان على الرغم من ذلك يعلمون تماما قيمة تلك المباني وعبقريتها الهندسية، ولعل من أبرز مميزات تلك البيوت أن هواءها طيب صيفا وشتاء، ولا تحتاج بأي صورة إلى مبرد هواء أو تدفئة على الرغم من تقلب الأحوال الجوية خارجها.. ففي الصيف تعمل حوائط هذه البيوت، التي يصل عرضها إلى 80 سنتيمترا وارتفاعها إلى 3.5 مترا، على امتصاص أشعة الشمس وحجبها عن دخول المنازل، وفي الشتاء تعمل كعازل طبيعي لمنع دخول التيارات الباردة إلى غرف المنزل».

ولفت محمود إلى أن مزايا هذه المنازل تشمل المنظر الجمالي البديع والتشكيلات الزخرفية الرائعة لمداخل البيوت، وانخفاض تكلفتها مقارنة بالمنازل الإسمنتية، لما تتمتع به البيوت الطينية من توافر الخامات المحلية المستخدمة في البناء. بالإضافة إلى نظام التهوية والإضاءة الطبيعية، التي تتم عبر فتحات ضيقة في أسقف الغرف في اتجاه هبوب الرياح الشمالية والشمالية الغربية، كما أن هناك فتحات في السقف تعمل على تخليص الغرفة من الهواء الساخن. وفي بنائه لقرية القرنة، لم يتجاهل حسن فتحي التراث المعماري الخاص بالقرنة القديمة، وقام بإنشاء أبراج للحمام و«المزيرة» المخصصة لوضع جرة المياه والزير، بالإضافة إلى حوش أو حظيرة للحيوانات، وأشجار حول المنزل.

يُذكر أن المهندس حسن فتحي من مواليد محافظة الإسكندرية في مارس (آذار) عام 1900، وهو حاصل على دبلوم العمارة من المهندس خانة (كلية الهندسة حاليا) بجامعة الملك فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) في عام 1926.

وتدرج فتحي بعدد من المناصب الوظيفية المحلية والعالمية، منها رئيس مشروع تجريبي للإسكان تابع لوزارة البحث العلمي بالقاهرة ومستشار لوزارة السياحة، وخبير بمنظمة الأمم المتحدة في مشروع التنمية بالمملكة العربية السعودية. كما حصل على عدد من المناصب الشرفية، منها عضو المجلس الأعلى للفنون والآداب، وعضو شرف مركز الأبحاث الأميركية، ورئيس لمجمع المائدة المستديرة الدولية لتخطيط عمارة القاهرة بمناسبة عيدها الألفي، وعضو شرف المعهد الأميركي للعمارة، ورئيس شرف المؤتمر العام للمعماريين المصريين، وعضو لجنة تحكيم جائزة الآغا خان في العمارة، وله أكثر من 160 مشروعا معماريا.

كما حصل حسن فتحي على الكثير من الجوائز والأوسمة، منها جائزة الدولة التشجيعية للفنون الجميلة عن تصميم وتنفيذ قرية «القرنة الجديدة»، وكان أول معماري يحصل على تلك الجائزة. وتوفي فتحي بالقاهرة في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، بعد أن ترك إرثا هندسيا يدرس في كل أنحاء العالم.