علم المرور يناضل لتيسير حركة السيارات في الطرق الأميركية

مشكلة المرور تشبه الفيزياء الجزيئية فهي مكونة من جسيمات فردية تتفاعل مع بعضها البعض

حاول عمدة نيويورك مايكل بلومبرغ اتباع استراتيجية مشابهة عام 2007 لكن حكومة الولاية قضت على المقترح ولم تفلح جهود تطبيق ضريبة ازدحام مروري داخل العاصمة واشنطن
TT

يبدو علم المرور واحدا من العلوم المؤهلة دوما لأن تشهد إنجازات، حيث تنشر الدوريات المهنية بانتظام أبحاثا واعدة تشيد الصحف بأهميتها.

عام 1999، أشارت «واشنطن بوست» إلى أن علماء اجتمعوا في معمل لوس ألاموس الوطني في ولاية نيومكسيكو الأميركية لتسوية مشكلة المرور على المستوى الوطني - تماما مثلما تجمع منذ جيل مضى عدد من العلماء الفيزيائيين لبناء قنبلة ذرية. ومع ذلك، ما تزال القيادة على الطرق السريعة المزدحمة بالسيارات قائمة.

والتساؤل الآن: لماذا نبقى عاجزين عن التغلب على هذه المشكلة؟

لقد اتضح أن المرور مشكلة معقدة خادعة، ويمكن القول إنها تشبه الفيزياء الجزيئية نظرا لأنها تشكل نظاما من جسيمات فردية تتفاعل مع بعضها البعض على نحو معقد. بيد أن الاختلاف يكمن في أنه في حالة المرور تملك كل من الجزيئات عقلا خاصا بها.

بوجه عام، هناك نوعان من التدفق المروري. في التدفق المستقر غير المحتقن، يمكن للسيارات السير تبعا للحد الأقصى المسموح له بالسرعة أو قريبا منها، ويتمكن الأفراد من الدخول والخروج من الحارات المرورية أو دخول الطريق السريع بسلاسة. في المقابل، هناك ما يطلق عليه خبراء المرور «نظاما غير مستقر»، الذي يشير إليه الناس العاديون بأنه مرور التوقف والتحرك المتكرر. وخلال العقد الماضي، توصل العلماء إلى متى وكيف يتحول المرور بين النمطين.

في هذا الصدد، شرح هاني محمصاني، العالم المتخصص في المرور بجامعة نورث ويسترن في شيكاغو، «نعاين في نماذجنا أن المرور يصبح غير مستقر عندما تصل أعداد السيارات المارة من نقطة محددة في حارة مرورية خلال ساعة واحدة إلى ما يتراوح بين 2000 و2500 سيارة. عند هذا المستوى من القدرة الاسمية، يصبح من المحتمل للغاية أن يفقد المرور استقراره».

ومن المحتمل تماما بالنسبة لـ2000 سيارة تسير تبعا للسرعة العادية المسموح بها على الطرق السريعة عبور خط معين داخل حارة معينة خلال ساعة، طالما أنها جميعا تتحرك بالسرعة ذاتها ولا يحاول أحد الدخول أو الخروج. إلا أن هذا الأمر نادر الحدوث. أما الأكثر حدوثا أنه في غضون دقائق من تدفق السيارات بأعداد كبيرة، يحدث شيء ما يربك العملية برمتها.

ولننظر إلى مثال كلاسيكي: سيارة تتحرك ببطء تحول اتجاهها نحو الحارة اليسرى للمرور من سيارة أكثر بطئا. وهنا يتعين على السيارة المارة خلف السيارة التي بدلت حارتها مباشرة تقليل سرعتها على نحو راديكالي - ليس لمضاهاة سرعة السيارة التي أمامها فحسب، وإنما إبطاء السرعة على نحو يخلق مسافة قيادة آمنة بين السيارتين. ويتحتم على السيارة التي تسير خلف هذه السيارة إبطاء سرعتها بدرجة أكبر، أيضا لحماية نفسها من الصدام. وتتكرر مسألة التباطؤ عبر السيارات على امتداد الحارة المرورية، لتنتشر بعد ذلك عبر حارات مرورية أخرى لدى ملاحظة السائقين في الحارات الأخرى أنوار الفرامل ويشرعون هم أيضا في إبطاء سرعتهم كرد فعل فوري. ويشير باحثو المرور لهذا الموقف باعتباره «موجة صدمة»، ويمكن لهذه الظاهرة الامتداد لأميال.

في نهاية الأمر، تنتقل السيارة الأبطأ نحو الحارة اليمنى، وتزداد سرعة حركة المرور. ومن وجهة نظر سائق سيارة تقف خلف السيارة التي بدأت هذه الموجة برمتها بمسافة ميل، لا يبدو هناك أدنى سبب وراء تباطؤ حركة السيارات.

إلا أنه للأسف رغم تمكننا من بناء تفهم جيد حول أسباب حدوث الاختناقات المرورية، ما تزال الأدوات المتوافرة لدينا لمنعها محدودة للغاية. ويقترح بعض الخبراء تنظيم الحارات المؤدية إلى الطرق السريعة بحيث يجري تنظيم عدد السيارات المسموح بدخولها إلى الطريق السريع.

وقال محمصاني: «مرور ألفي سيارة في حارة واحدة في الساعة يعد أمرا رائعا، لكن من المتعذر الحفاظ عليه. وعندما يحدث تعطل، يتراجع معدل تدفق السيارات على الفور إلى قرابة 1200 سيارة. وترمي الإشارات المنظمة لحركة دخول السيارات من حارات جانبية إلى الطرق السريعة إلى الإبقاء على المعدل عند مستوى يتراوح بين 1.750 و1.800 سيارة، وهو ما يمثل وضعا أكثر استقرارا».

وقد نفذت بعض المدن بالفعل هذا النظام، لكن التنفيذ لم يكن نشطا بدرجة كافية لخلق اختلاف. ويساور المخططون القلق حيال انتقال الشاحنات على الحارات الفرعية إلى داخل شوارع المدينة وخلقها اختناقات مرورية هناك.

من بين التكتيكات الأخرى التحكم في الحد الأقصى للسرعة، فعندما تسير السيارات تبعا لمجموعة واسعة من السرعات، تزداد احتمالات تعطل المرور. وعليه، أقر المهندسون مؤشرات إلكترونية على الحدود القصوى للسرعات على الطرق السريعة. وعندما يشير التدفق السريع لإمكانية حدوث تعطل، يقلص المسؤولون الحكوميون المعنيون بإدارة المرور الحد الأقصى للسرعة بمقدار 10 أو 15 ميلا للساعة لخلق «تناغم مروري». وهذا سبيل مفيد لتجنب مرور التوقف والتحرك المتكرر.

ويوضح علماء المرور أن هناك حدودا تقيد مثل هذه المبادرات، وما تزال هناك العديد من العقبات في وجه التقدم الحقيقي.

أولها: أننا لا نكره فعليا قضاء الوقت داخل سياراتنا مثلما نتظاهر. ويوضح كريس باريت، بروفسور التكنولوجيا بجامعة فيرجينيا الذي يتولى تقديم الإرشادات بخصوص أنظمة المرور وشارك في جهود معمل لوس ألاموس الوطني: «يأتي ذلك لأنه عندما نبني مزيدا من الطرق فإن هذا لا يحسن التدفق المروري. إذا ما قلصت الوقت الذي تستغرقه للانتقال لمسافة معينة حتى العمل، ينقل الناس مكاتبهم لمسافات أبعد سعيا وراء المساحات الأوسع والإسكان الأرخص، بدلا من الاستمرار لتقليص تكاليف التنقل. إن هذا الأمر في الواقع يغير السلوك على نحو سلبي».

علاوة على ذلك، قاوم الناس، في الولايات المتحدة، بضراوة أفضل أدوات محاربة التكدس المروري التي يمكن تنفيذها على الفور. وأوضح جميع الخبراء المروريين الذين تحدثت إليهم نجاح نظام التسعير لمواجهة الاختناقات المرورية الذي أقرته لندن، والذي بمقتضاه اضطر السائقون الراغبون في الدخول لقلب المدينة خلال أوقات الذروة إلى دفع 10 جنيهات استرلينية (قرابة 16 دولارا). وخلق هذا النظام اختلافا هائلا في تقليص الاختناقات المرورية، وتستغل المدينة العائدات الإضافية في تجديد مترو الأنفاق وإضافة مزيد من الحافلات.

من جهته، حاول عمدة نيويورك مايكل بلومبرغ اتباع استراتيجية مشابهة عام 2007، لكن حكومة الولاية قضت على المقترح. ولم تفلح جهود تطبيق ضريبة ازدحام مروري داخل العاصمة واشنطن، التي جاءت في المرتبة الأولى على مستوى الولايات المتحدة من حيث عدد الساعات المهدرة في المرور، تبعا لمسح أجري مؤخرا.

وتتمثل عقبة أخرى أمام التقدم الفشل العام في تطبيق التكنولوجيا في قطاع النقل. تحمل السيارات المعتمدة على السائق الإلكتروني بصورة كاملة أو جزئية - وهي السيارات المجهزة بحواسب آلية تتولى القيادة بمجرد الدخول إلى طريق سريع - إمكانية التخفيف من الأزمات المرورية. وستتمكن هذه السيارات من السير بجوار بعضها البعض على مسافات أقرب، لأن الحواسب الآلية تستغرق وقتا أقصر في ردود أفعالها عن البشر. كما تخلق هذه السيارات تناغما أفضل في السرعة نظرا لأن المركبات ستجري برمجتها بحيث تسير على نحو يسهل التنبؤ به.

للأسف، ما يزال الوقت طويلا قبل أن نرى غالبية السيارات على الطرق السريعة تقود نفسها بنفسها. ويؤكد باريت على أن الوتيرة شديدة البطء في إقرار التقنية بصناعة المرور يمثل مشكلة. واستطرد موضحا أن تكنولوجيا السيارات المهجنة تعد «أهم الإنجازات بمجال السيارات منذ عقود، لكنه ليس إنجازا نظريا، وإنما يقوم على أربع عجلات مليئة بالهواء. وما يزال هناك جهاز امتصاص صدمات ومحرك احتراق داخلي. إننا نعاني من نقص ممنهج في الخيال فيما يخص النقل الآلي».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»