«الاحتراق» للسوري جان بوغوصيان: «التدمير بالنار لبناء الفن»

اختارها لتكون هوية فنية جديدة تختلط بالألوان على القماش والورق

TT

من «الاحتراق» أنتج فنا فأتقن جان بوغوصيان لعبة «النار» ليدمر اللوحة بهدف بنائها فنيا مستمدا جمالية الأحجار الكريمة والمجوهرات التي ألفها ليسقطها من مخيلته بحرفية الصائغ. في لوحاته التي تزيّن قاعة مركز بيروت للمعارض في وسط المدينة، فنّ من نوع آخر اختاره الفنان السوري الأرمني الأصل ليشكّل الهويّة التي تطبع هذا المعرض وليكون الانطلاقة الجديدة في سيرته الفنية التي تزيد على 20 عاما في موازاة عمله كمصمّم للمجوهرات. هو الذي يعتبر أن «النار فنّ اللحظة إما أن تتمكّن من السيطرة عليها أو تسيطر عليك وعلى عملك»، وجد فيها وسيلة جديدة تستحقّ أن يخوض في خفاياها جامعا إياها مع الورق والقماش والخشب التي لطالما شكّلت معا أسس أعماله السابقة التي عرضها في معارض فردية عدّة في بروكسل بين عامي 2008 و2011 وفي أخرى جماعية في عامي 2008 و2009.

«هذا التعدّي» الجديد على اللوحة باختلاف مكوّناتها التي طبعت بلدغات الاحتراق وانعكست ثقوبا ذات أشكال وأحجام مختلفة وإن بدرجات متفاوتة، امتزجت في أحيان كثيرة مع اللون أو تركت على سجيّتها في أحيان أخرى لتكوّن تلك العوالم الفنية المختلفة ما يصحّ تشبيهها بـ«الفوضى المنظّمة»، فتحمل كلّ ورقة توقيع عالم خاص وتجربة فريدة من نوعها. 60 لوحة «مجهولة الأسماء» متشابهة ومختلفة في الوقت عينه توزّعت على جدران قاعة معرض «الاحتراق»، لكلّ منها خصوصية بل عالم بحدّ ذاته ترك فيها بوغوصيان العنان لمخيلته ثمّ لأنامله لتأخذه إلى ما لا نهاية الأفكار معتمدا على الدّمار لبناء فنّه. هذه المخيّلة التي تجسّدت في أعماله وفق انسيابية أفكاره لم يشأ لها أن تتقيّد بعناوين أو أسماء محدّدة تاركا لـ«قارئها» أيضا حريّة الغوص في تفاصيلها واكتشافها انطلاقا من ذاته، «وهذا ما انعكس جليا خلال اليوم الأوّل لافتتاح المعرض في آراء الذين حضروا وعبّروا لي عن رؤيتهم لكلّ عمل ولوحة وشعرت حينها بأنّ هدفي تحقّق»، كما يقول بوغوصيان لـ«الشرق الأوسط».

وبما أنّ هدف بوغوصيان في تجربته الفنية الجديدة لم يكن التخلّي عن وسائله التقليدية المتمثّلة في الورق والقماش، بل أن يطوّعها لخدمة «فنّ النار المحترق»، تمثّلت وظيفته الثانية بتلوين الحروق ليلغي بذلك آثار الاحتراق جزئيا ويترك ثغرات أخرى في سماء أحادية اللون. ولأنّ الفنّ متحرّر من القواعد من دون أن يعني ذلك أن يبتعد عن «التعقيد»، أتى عمل بوغوصيان في بعض الأحيان معاكسا ينطلق من عملية توليد الألوان المتراوحة بين الدافئة والباردة في المرحلة الأولى ثمّ إفسادها بالحرق لتصل في النهاية إلى الهدف الفني المنشود مع ما «يشوبها» من حوار بين اللون والنار والغموض فيما بينهما.

هذا الخرق للقواعد، كان يتجسّد أيضا في مراحل ولادة لوحات «معرض الاحتراق»، إذ إضافة إلى أنّه لكلّ منها انطلاقة بل أفكار تبدأ في مكان ما ولا يعرف إلى أين ستنتهي، قد تشترك أيضا جميعها في ولادة واحدة من حيث البداية لتنطلق في ما بعد في طريق بل طرق متعدّدة في الوقت عينه، وعند سؤاله عن الفترة الزمنية التي تستغرقها هذه اللوحات يستعين بمقولة لبيكاسو ليقول «أمضيت ثلاثين عاما لأرسم لوحة في ساعة».

وعن الهدف الذي ينطلق إليه في كلّ «لوحة ناريّة» يبدأ العمل عليها يقول «النار يمحو ولا يمحى، وبالتالي يبقى عملي غير مقيّد بهدف محدّد، وإن كان الهدف الأساس هو الورقة البيضاء التي انطلق منها، لذا قد أبدأ العمل على لوحة ثمّ أنتقل إلى ثانية ثمّ ثالثة ثمّ أعود إلى الأولى، ما يسيّرني هو انسيابية الأفكار واستمرارها».

وإيمانا منه بأنّ الكتاب يبقى الوسيلة الأهم لانتقال المعرفة بين الأجيال، اختار أن يكون لـ«فن النّار» كتابه أيضا، إذ إضافة إلى اللوحات، نجح في جمع أعمال أخرى «نحتت» على الورق فقط هذه المرّة في كتاب كبير ركّز في وسط القاعة لتختصر كلّ صفحة منه بدورها عالما خاصا بني من الفجوات والثقوب الملوّنة التي يقول عنها «هي مساحات حرّة ليضع كلّ منّا أفكاره وعقائده التي تكبّله علّنا نجتمع معا في مكان ما ونصل إلى لغة مشتركة».