المدرسة العادلية في دمشق.. صورة نموذجية لفنون العمارة الأيوبية

ابن مالك وابن خلكان وابن خلدون أقاموا فيها

باحة المدرسة العادلية
TT

قبل نحو ثلاث سنوات تم الانتهاء من أعمال الترميم للمدرسة العادلية الأثرية في مدينة دمشق التي شملت جميع أقسامها ومبانيها وقبر الملك العادل شقيق صلاح الدين الأيوبي المدفون فيها. وقد افتتحت أبوابها أمام الزوار والباحثين؛ حيث تشكل بمبناها المقابل للمدرسة الظاهرية الجزء الثاني من المكتبة الظاهرية، أقدم مكتبات بلاد الشام العامة. وتتميز المدرسة العادلية بوجودها في منطقة تاريخية استراتيجية بقلب مدينة دمشق القديمة تزدحم فيها المباني والأزقة القديمة، فهي تجاور الجامع الأموي وسوق الحميدية وحي الكلاسة وقبر صلاح الدين ومنطقة العمارة وغيرها، وقد بناها الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب شقيق صلاح الدين الأيوبي، حيث شارك أخاه في كل معاركه وتسلم الحكم بعد عدة سنوات من وفاة صلاح الدين وسلم أولاده من بعده السلطة. وقد حارب الصليبيين لربع قرن ويقال إنه توفي متأثرا بسقوط مدينة دمياط المصرية بأيدي الصليبيين سنة 615هـ. وقد دفن بداية في قلعة دمشق ومن ثم نقل رفاته إلى مكانه الحالي في المدرسة العادلية التي باشر بناءها نور الدين زنكي سنة 568هـ قبل أن يقوم الملك العادل بإزالة ما بناه نور الدين وبنى المدرسة كما هي عليه الآن. وقد أقيم احتفال كبير بمناسبة افتتاحها؛ حيث خصصت لتعليم علوم الشريعة ولإجراء الدراسات والأبحاث، وظلت تقوم بدورها رغم تعرضها للهدم مرتين على يد المغول والتتار، ليعاد ترميمها وإعادة دورها العلمي حتى تخربت في العصر العثماني، وزارتها لجنة في عام 1328هـ وقالت في تقريرها إنه لا يوجد فيها طالب واحد. وقد تم ترميمها في ما بعد، واستثمرت كمقر لمتحف دمشق الوطني الوليد قبل أن ينتقل لمبناه الجديد على ضفة بردى في طريق بيروت قبل أكثر من سبعين عاما، وبعدها تحولت المدرسة إلى مقر لـ«المجمع العلمي» الذي صار اسمه في ما بعد «مجمع اللغة العربية» بعد انتقاله إلى مقره الجديد في حي المالكي بدمشق. وضمت المدرسة العادلية إلى مبنى المكتبة الظاهرية وتحولت قاعاتها إلى مكان لاستقبال الباحثين والكتّاب.

وتذكر المصادر التاريخية أن المدرسة العادلية وعبر تاريخها البعيد والقريب استقبلت العديد من أهم الباحثين والمؤرخين العرب والمسلمين، الذين درسوا بها أو درّسوا فيها وألقوا محاضرات وأمسيات شعرية وأدبية فيها ومنهم: ابن مالك صاحب «الألفية»، وابن خلدون، حيث نزل بها عندما زار دمشق، وأقام فيها المؤرخ أبو شامة، حيث ألف فيها «كتاب الروضتين في تاريخ الدولتين»، كما أقام فيها المؤرخ ابن خلكان، حيث ألف فيها كتابه «وفيات الأعيان». أما في العصر الحديث، فقد نزل في المدرسة بعد تحولها إلى مجمع اللغة العربية العديد من الكتاب والأدباء ومنهم: أحمد شوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم ومحمد كرد علي وعمر أبو ريشة وشفيق جبري، وآخرون.

والمدرسة العادلية التي تقدم صورة نموذجية لشكل العمارة الأيوبية بدمشق تتكون من طابقين، وتضم قاعات واسعة، و«أواين» متميزة، وباحة كبيرة تزينها بحرة جميلة، وهناك الزخارف والأقواس العربية التي تزينها، خاصة في قبر الملك العادل. وقد عملت فرق الترميم على إصلاح جميع منشآتها بدعم مالي من مجمع اللغة العربية المالك لمبنى المدرسة. ويشرح المهندس جلال رمضان المشرف على أعمال ترميم المدرسة العادلية ما تم بها من أعمال إصلاح: «بعد أن انتقل مجمع اللغة إلى مقره الجديد في حي المالكي بدمشق لوحظ وجود عدة تصدعات وانهدامات في مبنى (العادلية) وحصل هبوط في القسم الغربي من المبنى الذي يشكل مستودع المكتبة، فكان القرار بإجراء مشروع متكامل للترميم والإصلاح في مبنى (العادلية)، وشكلت لجنة لهذا الغرض تضم خبراء من مديرية الآثار والجهة المالكة للمبنى، أي مجمع اللغة، وحددت اللجنة نوعية الأعمال التي ستنفذ بحيث تكون متوافقة تماما مع ما كان عليه المبنى عند تأسيسه قبل 700عام». وبشكل عام، تبلغ مساحة المدرسة العادلية 1550 مترا مربعا، وهي ذات شكل مستطيل طولها 37 مترا وعرضها 50 مترا».

ويوضح رمضان: «وبالفعل انطلقت ورشات الترميم من الواجهة الغربية للمبنى، وهي ذات طراز معماري مملوكي وعثماني، وأعيدت كما كانت سابقا، كما تم ترميم جدران المبنى حسب الطراز الأصلي لها وهو طراز أيوبي، وروعي في التنفيذ استخدام الأحجار بالسماكات نفسها وهي 30 سم للجدران العثمانية، و60 سم للأيوبية، كما تم كشف الأقواس والعمدة التاريخية والقبوات المتصالبة، وكانت ذات شكل معماري جميل حيث قمنا بترميمها. وفي ما يتعلق بالأسقف، فقد وجدنا عليها إضافات حديثة من القرميد تمت إزالتها، كما لاحظنا أن خشب الأسقف جميعها مسوس ومتهرئ، فأزيلت جميعها وأعدنا عمارة السقف وفق ما كانت عليه سابقا، حيث وضعنا مداميك وخشبا جديدا بما يتناسب مع وصف المؤرخين والرحالة لها كابن عساكر وغيره. وأثناء الترميم لاحظنا أن هناك بعض التعديات من قبل الجوار أدت لحجب درج المدرسة، كما كان هناك اقتطاعات من الجوار في قاعتي (مردم بك) و(البحرة) حيث تتداخل الأقواس الحجرية، فعملنا على معالجتها وفق الأصول القانونية. أما في ما يتعلق بضريح الملك العادل الأيوبي المدفون بالمبنى الذي أقامه هو نفسه وأسسه كمدرسة ومكان لضريحه، فقد تمت على مبنى الضريح أعمال ترميم وإصلاح، حيث تمت معالجة تسرب المياه فيه وتم إصلاح التشققات في القبة والجدران وغيرت الأسقف وغيرت كُحْلَة (طلاء) الجدران؛ إذ كان لونها زهريا لا يتناسب مع أهمية المبنى المعمارية، فتم استخدام كحلة قريبة من لون الحجر، واستخدمنا التكليس كما كان عليه المبنى عند تأسيسه».

وحول أقسام «العادلية» حاليا بعد انتهاء مشروع الإصلاح والترميم قال رمضان: «(العادلية) مؤلفة من قاعتين كبيرتين، هما (محمد كرد علي) و(خليل مردم بك)، قد وضعتا بتصرف الباحثين والكتاب ضمن المكتبة الظاهرية كما كانتا قبل انطلاق مشروع الترميم. وهناك أيضا قاعة (البحرة) والواجهة الغربية للمبنى وهي عبارة عن مكاتب. وهناك كتلة قبر الملك العادل».