محمد العبدالله الفيصل صانع الإبداع

ترك الرياضة والشعر وعزف عن الهوايات وأصر على علاقة «روحية» مع جدة

محمد العبدالله الفيصل
TT

يبدو أن المقادير تصر على أن ننتقل لحقبة جديدة، يغيب عنا عمداء من رجال الدولة، وأساطير من أهل الفن وأساتذة من المثقفين، وحذاق من رجال المال والأعمال، ونجوم من الرياضيين، وليس أدل على انتقالنا غير البطيء هذا من موت شخصية دعمت الرياضة معملها والفن بثقافتها وارتأت أن تتبوأ مقعدا في منطقة التقاطعات بين هذا وذاك.

محمد العبدالله الفيصل، الذي تجاذبته تلك المجالات المختلفة بينها، مات مصطحبا بموته كل الصخب، مع أنه إذ ينتقل في الأيام الطاهرة إلى جوار ربه، ينتقل وقد شح جهده لدى شريحة واسعة من شباب هذه الأيام.

فالرجل ومنذ 10 سنوات اعتزل الرياضة، وقد لا يعرف الكثيرون عنه كشاعر وأديب؛ إذ إن أعذب شعره وأصدقه كتبه لكبار الفنانين والمغنين، وأسمعت كلماته في تلك الأثناء العرب بين المحيط غربا والخليج شرقا، خاصة حينما أنشد طلال مداح بصوته الندي «مقادير» محركا أشجانهم ومقدما أيقونة رمزية للخصال التي تجمع أولئك.

وشعر الأمير محمد العبدالله واجه الانحسار بعد الروائع التي قدمها صوت الأرض، وذلك في رأيه بسبب فقدانه الجديد الذي يكتب فيه، في ساحة أنفها بعدا امتلأت بالغث والسمين كما في رأيه.

قصة الغث والسمين والرديء كانت دائما تزعج الأمير الراحل، سواء في الشعر أو في الفن أو في الرياضة، فطلاقه للثلاثة بالثلاث في فترات مختلفة من حياته، معتبرا أن الأصوات والألحان والأسماء اختلطت ببعضها ولم تعد الساحة واضحة المعالم.

الأمير الذي سقط رأسه في العاصمة المقدسة التي سيستقر رأسه فيها غدا، والذي اعتزل الدنيا كان الاعتزال بعد العطاء المتدفق الذي يقدمه في كل مجال سجية تميز بها، بل إنه وصل ليعلن اعتزال حبه وعشقه لقلعة الكؤوس بعد أعوام صرف فيها عليهما أكثر من 120 مليون ريال في خزينة النادي الأهلي.

بل يقول الأمير الشاعر عن نفسه إن كتابة الشعر وركوب الخيل ورحلات القنص وكرة القدم والسباحة والتنس التي استهوته في فترات من حياته وورثها عن أبيه وجده، انتهت إلى ترك كل منها بعد فترة غير طويلة من ممارستها.

عرف محمد العبدالله الفيصل، كإخوته وأعمامه، بعلاقة مميزة مع مدينة جدة، ومع الحجاز بصورة عامة، فهو ومعظمهم ولدوا فيها، بل ويعتبر هو شخصيا أن لجدة عنده «طابعا خاصا» وأن العلاقة بها تتجاوز مجرد المساكن المنسدلة والممتدة على ساحل بحرها الأحمر وشرمه لتصل إلى العلاقة التي يقول عنها الراحل إنها «روحية»، وعلى الرغم من ذلك كانت لكل مدن المملكة المكانة ذاتها في قلب الأمير الذي كان يقضي أيام الصيف في أبها البهية.

يستقي الأمير محمد العبدالله الفيصل الكثير من تلك القيم المطلقة التي لطالما تمتع بها من مكانة والده الأمير عبد الله الفيصل الذي كان وزيرا للداخلية وشاعرا عابرا للأقطار ورجل أعمال من أثرياء العالم ومؤسس الحركة الرياضية السعودية، وهو عند الحديث عن والده يبدع صدرا وعجزا وينثر أطايب الكلمات عن والده، ويعترف: «نعم كان من أغنى أغنياء العالم، ليس بالمال بل بحب الناس وكرمه ومواقفه»، أما عن ماله فيقول: «التراب في يده يصير ذهبا»، وهو ما أشار إليه بامتلاكه أكبر مزرعة ألبان في العالم حسب موسوعة غينيس للأرقام القياسية.

ورث محمد، الابن الثاني للأمير، والده شكلا ومضمونا، واستفاد من ملازمته إياه في جدة حتى وفاته في 8 مايو (أيار) 2007؛ فالأمير عبد الله الفيصل كان مدرسة استفاد منها حتى البعيدون عنه نسبا من الأسرة المالكة، فضلا عن القريبين منه من إخوانه وجلسائه والعاملين معه، وهو مع ذلك يرفض أن يكون ثمة خليفة ولا نسخة أخرى من «شاعر الحرمان».

حب الأهلي، الذي نفاه الأمير في فترة متأخرة من حياته، كان أحد تلك الموروثات عن والده، ففي عقد السبعينات من القرن الماضي، شكل الأمير محمد مع الأمير خالد بن عبد الله والأمير عبد الله بن فيصل بن تركي ثالوثا مكن الأهلاويين من حيازة لقب «قلعة الكؤوس» بجدارة، لكن الخلافات التي دبت لاحقا جففت الخزينة الأهلاوية عن البطولات لـ15 عاما.

أحد تلك الخلافات كان سببه حب محمد العبدالله للأهلي وتكريمه للاعبين عقب الانتصارات بمعزل عن إدارة النادي، وبعد أن عاد الأمير مشرفا على كرة القدم ورئيسا لهيئة أعضاء الشرف عاد الأهلي شيئا فشيئا لبعض أمجاده، إلا أنه انسحب بشكل مفاجئ بأحد المواسم، ثم بعدها انسحب عن بطولة الصداقة الدولية التي كان قد رعاها مع إمارة منطقة أبها كل صيف، سابقا.

حتى بعض العادات التي كان يمارسها ويعترف صراحة بها كان الأمير محمد قد تركها كالتدخين، فبعد تجربة طويلة معه شعر محمد العبدالله الفيصل براحة ودعا في فترة ما لرفع أسعارها حماية للشباب ودعما للرياضة.

وعلى الرغم من أنه حفيد أحد أكثر الساسة تأثيرا في خارطة السياسة الدولية في القرن الماضي، فإن الأمير محمد العبدالله الفيصل يشبه علاقته بالسياسة كعلاقة الهند وباكستان من وجهين، فهما متجاورتان إلا أن بينهما غالبا ما صنع الحداد كما يصف الأمير نفسه، لكنه وفي سني حياته الأخيرة عاد لمتابعة الأخبار السياسية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وذلك عبر صحيفة «الشرق الأوسط» بدرجة كبيرة حسب ما ذكر لإحدى وسائل الإعلام.