«كوبر بيدي».. درة صحراء أستراليا وعاصمة حجر «الأوبال»

كانت في الماضي منطقة للاختبارات النووية وقاعدة للانطلاق إلى الفضاء

بعض سكان استراليا الاصليين الذين أمكنهم الجمع بين واقعهم في العيش تحت الأشجار والحفاظ على تاريخهم فهؤلاء يرسمون ويشتغلون فنانين تشكيليين
TT

كان جان ماكدول ستيوارت، أول رجل غربي يمر بالقرب من هذه المنطقة في عام 1858. لم يدس على أرض هذه القرية الصغيرة، مر بالقرب منها، لكن لا شاهد على المكان الذي مر منه سوى الطريق السريع الذي حمل اسمه. لكنه الأول الذي مر. سجل له ذلك، في بلد تترامى أطرافه من الماء إلى الماء، وفي ذلك الوقت، كان يعتبر إنجازا أن يمر رجل من تلك المنطقة. لكنه، لم يجلس ولم يشاهد ما كانت الأرض تخزن تحت أرجل حصانه. ولم يطل الوقت، حتى بدأت الحياة «الكولونيالية » تدب في تلك الأرجاء القاحلة. كانت تلك الرحلة التي جرت، قبل ما يزيد على نيف وقرن من الزمن، رحلة، قطع خلالها، جان ماكدول ستيوارت، ورفاقه، أستراليا، من غيلونغ التي وطأها الملازم جان موراي 1802، وحتى داروين في الشمال. مضى ستيوارت، وقتها، ليقطع القارة. شاهد العجائب على الطريق، لكنه لم يكتب عنها. حتى اليوم، من يقطع هذه الطريق يشاهد العجائب، وأيضا، قلة من يكتبون التجربة. لا ندري لماذا، لا تفتح هذه القارة شهية الكثيرين على الكتابة. جان ستيوارت، مر من هناك، قيل إنه لم يتمكن من إكمال طريقه إلى داروين، على الأرجح هو ومن معه ماتوا على الطريق، أو قتلوا. تلك الطريق لم تزل لغاية اليوم خاوية، هي بطن القارة الخاوي من السكان.

على الطريق المسمى اسم ستيوارت (ستيوارت هايواي) كان الرحلة إلى كوبر بيدي، الطريق الذي يبدأ صعودا من أدلاييد مرورا بمرفأ بيري بيري ثم يكمل حتى بورت أغوسطا، يقطع بعد هذه القرية، التي يسكنها الأبوريجين، كليا مع الحضارة. بعد بورت أغوسطا، لن توجد منازل، وأقرب قرية على الطريق النحيل المسفلت ستكون على يمين بحيرة التنين الكبيرة التي كانت في الماضي منطقة للاختبارات النووية، وقاعدة للانطلاق إلى الفضاء. في بيمبا، التي يسكن فيها 35 شخصا، وهي عبارة عن محطة للمسافرين تحوي مطعما بسيطا ومحطة وقود، هناك، يمكن رؤية عربات عسكرية للجيش الأسترالي. المنطقة فعلا عسكرية كما كتب على يافطة أكل الصدأ أطرافها قبل ثلاثمائة كيلومتر بشكل موارب «هذه المنطقة ممنوعة على العامة يرجى عدم الخروج عن الطريق الرئيسية». الطريق أيضا لا تسمح بالخروج عنها، فلا يوجد على أطرافها سوى الصحراء.

حتى كوبر بيدي، لا يوجد بين بورت أغوسطا وبينها سوى قريتين. بيمبا، حيث القاعدة العسكرية وقاعدة إطلاق الصواريخ إلى الفضاء، وغليندمبو التي يقطنها سبعة أشخاص فقط لا غير. امرأتان صينيتان تشغلان محطة الوقود وخمسة أشخاص، لم أرهم، يعيشون داخل النزل الصغير الذي يديرونه. هذه هي القرية. أما الباقي من الطريق، فلا يمكن مشاهدة شيء باستثناء جثث بعض حيوانات الكنغارو النافقة، وبعض الأبقار وحتى النعام، النافقة أيضا، وتلك التي تجري خلف رزقها في صحراء بلا نهاية. على الطريق أيضا الشاحنات الكبيرة المسماة (قطار الطرقات) وحتى كوبر بيدي لا توجد حياة، غير ما رأيت.

شهدت نهاية عام 1915 اكتشاف حجر الآوبال الذي تشتهر به أستراليا، خاصة كوبر بيدي. تم الأمر بهدوء قليل، إذ تشير بعض القصص التي ما زالت تتناقل في المنطقة لغاية اليوم إلى أن قبائل السكان الأصليين لأستراليا «الأبوريجين – الكوبا بيتي» قاوموا، في تلك الفترة، الوجود الغربي الاستعماري في منطقتهم. لكن، بحسب ذلك الزمان فإن الانتصار للقوة. أما اليوم، وبعد مراجعة سياسية وإنسانية وسياحية لوجود السكان الأصليين، عاد بعض الحق لأصحابه، وإن جزئيا. إذ تقول معلومات الحكومة الأسترالية، وكذلك سكان المنطقة والعاملون في مناجمها، وحتى أصحاب المناجم، بأن هذه المناجم قامت على أرض هي أساسا، كانت ولا تزال ملكا قوميا لقبائل الأبوريجين – الكوبا بيتي التي تعيش عليها. ولذلك فإن لهؤلاء السكان الحق بنسبة مئوية من الدخل المالي الذي يؤمنه الناتج المحلي لمناجم الآوبال، وبالفعل، فإن الحكومة تنفق كل ستة أشهر مليار ونصف المليار دولار، على تأهيل قبائل الأبوريجين المختلفة، في كافة أنحاء أستراليا، بهدف إدخالهم في الحضارة، لكن دون جدوى، الأبوريجين اختاروا الالتفات إلى الطبيعة وإلى غريزتهم في العيش.

من الأمور اللافتة، في هذا الجانب. أن الحكومة، التي هي بالطبع، تفعل ذلك تكفيرا عن الذنوب التي اقترفتها منذ قرنين من الزمن بحق هؤلاء الناس المسالمين. لكن، دون جدوى. تبني لهم البيوت فيكسرون أبوابها ونوافذها الخشبية لإشعال النيران، تعمل على دمجهم في القرى والمدن، فلا تجدهم سوى في الحدائق العامة يترنحون من شدة السكر، تساعدهم على إيفاء أبنائهم للدراسة، مجانا، فلا يتمكنون من الجمع بين ترتيب أولادهم وإلباسهم ملابس نظيفة والتسكع في الحدائق لمطاردة الحيوانات. مع ذلك، فقد نجح البعض منهم في تجاوز حالة انعدام الوعي مع الواقع ودخل في منظومة الحضارة الغربية التي تسيطر على هذه القارة، لكن دون نسيان الماضي والأصول. أما الآخرون من الذين أمكنهم الجمع بين واقعهم المعيش تحت الأشجار والحفاظ على تاريخهم، فهؤلاء يرسمون ويشتغلون فنانين تشكيليين. حين تتقدم القارة في العالم ببعدها الثقافي تتقدم بأعمالهم، التي أصبحت بحسب منظمة اليونيسكو، من الإرث الثقافي العالمي الواجب المحافظة عليه.

بعد أقل من قرن بقليل على وجود الحياة في هذه المنطقة، لا يعيش هنا، سوى 1916 شخصا ينتمون إلى أصول متنوعة. وحتى اليوم، وعلى الرغم من توقف العديد من المناجم عن العمل، لا تزال الحياة في المكان قائمة على حجر الآوبال الكريم وبضعة مناجم للماس تقع على الأطراف البعيدة للمنطقة. حفر في كوبر بيدي، منذ بدء العمل بها لغاية اليوم نحو 250000 ألف منجم، تتراوح أعماقها بين الثلاثة أمتار والعشرين مترا، وهي جميعها كانت أمكنة لاستخراج كنوز مهمة، تقدر بالمليارات من الدولارات.

تتميز كوبر بيدي، بالحياة القائمة تحت الأرض فيها. هنا، من المستحيل الحياة على سطح الأرض، لا صيفا ولا شتاء، ففي الصيف، تصل درجات الحرارة إلى ما يفوق الخمسين درجة مئوية وفي الشتاء تنزل ليلا إلى ما تحت الصفر. هذا ما يجعل البيوت هنا، وكذلك الفنادق والكنائس والمطاعم والمسجد الوحيد، الصغير جدا، تحت الأرض، كل شيء هنا يدل على أن الحياة مستحيلة. لكن كيف تعيش قبائل الأبوريجين التي تسكن المنطقة منذ مئات السنين؟ لا أحد يعرف كيف يتحمل هؤلاء الحياة هنا، غير أنهم، وكما شاهدت يتفيأون تحت الأشجار ويعيشون في كهوف قريبة، ومنهم من يعيش في بعض المناجم التي انتهى العمل فيها منذ زمن بعيد.

تقول الأبحاث العلمية، التي جرت ولا تزال تجري في المنطقة، بأن المحيط كان هنا قبل مائة وعشرين مليون سنة. الأمر مربك حقا، لكن يكفي التجول قليلا على الطريق التي توصل إلى المناجم المحيطة بالقرية للتأكد. هناك، في الأراضي القاحلة إلا من بعض الأعشاب الصحراوية يمكن العثور على أصداف متحجرة وقواقع وحتى بعض الآثار التي تدل فعلا على وجود الماء. وأن المحيط كان فعلا هنا.

تعيش هذه القرية اليوم، على السياحة، على الرغم من ندرة السياح في المنطقة، لكنها مع ذلك تعتبر محطة على الطريق التي تصل إلى أكبر صخرة على وجه الأرض (أولورو) الصخرة المقدسة عند قبائل الأبوريجين. وجهة السياح هنا، المعارض التي تبيع أحجار الأوبال وكذلك الفن التشكيلي القديم الذي ينتجه بضعة فنانين من القبائل التي تعيش في المنطقة، وكذلك قضاء تجربة ممتعة في الإقامة ولو حتى لليلة واحدة في غرفة فندق نحتت داخل الصخور تحت الأرض. أما الحياة التي يعيشها السكان، هنا، فهي كما قال لي شامل سنسكي الذي جاء من البوسنة قبل ثلاثة عقود واستقر في القرية، قال: «حين جئت إلى هنا، كان يكفي أن تحفر عدة سنتيمترات تحت قدميك لتستخرج الآوبال وأحيانا الماس. اليوم لم يعد ثمة شيء سوى انتظار السياح لبيع بعض التحف والقليل من الأحجار المتبقية».