الحكواتي اللبناني يظهر لاستقبال العيد ويتناول حكايات الناس المرتبطة بيومياتهم

من وحي هيفاء وهبي وبالاستعانة بسيف بن ذي يزن

TT

مع نهاية شهر رمضان، أصبحت الاحتفالات أكثر زخما في لبنان، والبحث عن استعادة التراث القديم أشد إلحاحا. تزايد الطلب على دراويش الطريقة المولوية، وفرق الوداع التي تجوب الشوارع وتطرق أبواب المنازل وهي تنشد الأناشيد الدينية والأدعية برفقة الطبول، كما ظهر الحكواتيون، ليعيدوا للقص الشفهي مجده الغابر.

اللافت أن كل حكواتي من هؤلاء يريد أن يحدث أسلوبه على طريقته الخاصة. ثمة أنفة من إعادة حكايات عنترة وقصص السيرة الهلالية، والزير سالم. «ليس هذا ما يريده الناس اليوم» يقول أحد الحكواتيين لـ«الشرق الأوسط»، ويتابع: «إنهم يريدون أن يسمعوا حكايتهم الخاصة المرتبطة بيومياتهم وأحداث حياتهم الراهنة».

لهذا ربما سعى الحكواتي نزيه قمر الدين الذي احتل حديقة المنشية في وسط طرابلس، في إحدى الليالي، لأن يجعل أبو صطيف مساعده، ويدخل الفنانة هيفا وأزمة الكهرباء على حكاياته التي بدت أقرب إلى المونولوجات النقدية، منها إلى القصص التسلوية. وعلى مونولوجات قمر الدين دخلت الثورات العربية بهمومها ومفرداتها، مثل «شارع شارع، بيت بيت، زنقة زنقة». وتدخل قصة عنترة العبسي وحبيبته عبلة، بتفاصيل عصرية حديثة، وهو ما سيسمح أيضا بإدخال الهاتف الجوال، والتليفون الأرضي، وكذلك رياضة الأيروبيك، وحتى أغاني نجوى كرم.

هكذا لم يبق من تراث الحكواتي التقليدي سوى الحكي وبعض الشذرات القليلة من تلك القصص الشهيرة التي كان يرويها الحكواتيون، وهي تأتي من باب التنميق والتذكير بالماضي، دون أن يدرك الحكواتي مهمته الأساسية التي تقوم على التشويق والإمتاع. وهو ما لم يعد يعنى به بعض الحكواتيين العرب الجدد.

حكواتي آخر هو براق صبيح، قرر بالتعاون مع بلدية طرابلس أن يجوب الأماكن الأكثر اكتظاظا من هذه المدينة على متن سيارة شحن صغيرة حول مؤخرتها إلى مسرح مزين ومضاء. وعلى مدار 6 ليال جال «حكواتي البلد» كما سمى نفسه، على أكثر الأحياء فقرا كما أكثرها غنى يحاول أن يروي قصة المدينة، الغارقة في تأخرها ونسيانها لتأريخها.

«حكواتي البلد» يذكر المارة وهو يقف قرب السوق العتيق أن المماليك كانوا هنا، وبنوا وشيدوا وبعدهم جاء العثمانيون. وما ساعة التل الشامخة وسط مدينتهم سوى هدية السلطان عبد الحميد لهم في العيد الـ25 لجلوسه على العرش.

وكما هو حال نزيه قمر الدين، ولكن بأسلوب آخر أقل سخرية يذهب براق صبيح إلى نقد الحاضر الذي يبدو أنه لم يعد يعجب أحدا.

هكذا جال الحكواتي براق - الذي يعمل مع صديقة كمال عباس، من خلال جمعية «فنون متقاطعة» - على شوارع مدينة طرابلس، من حي إلى آخر، لنرى أن الحكواتي الجديد يمكن أن لا يأتيه الناس، وإنما هو الذي يذهب إليهم، ويباغتهم في أسواقهم، وعلى أرصفة مقاهيهم، وأثناء نزهتهم. وقد استعان الحكواتي هذه المرة بفرقة الدراويش، لينهي كلامه بالفتلة المولوية التي يؤديها شاب صغير لا يتجاوز عمره الـ15 سنة. وفي أحيان أخرى كان يغيب الشاب ليحل محله لاعبو السيف والترس ليضفوا على العرض شيئا من الحيوية التراثية.

بين فنون الماضي، والرغبة في مواجهة الحاضر الممض، سرح حكواتيو رمضان.

كمال عباس من جمعية «فنون متقاطعة» يشرح لنا أن الحكواتي الجوال الذي جاب المدينة أواخر رمضان وعلى مشارف العيد مجرد توطئة لمزيد من عروض الشارع التي تحضر لها الجمعية، بعيدا عن أجواء الشهر. وهي عروض نقدية هدفها توعية الناس على مخاطر عادات سيئة تلبستهم، وأفكار مغلوطة تعودوها. قبل نهاية رمضان ستسير مجموعة من 30 شابا في شوارع طرابلس تحت عنوان «أنا صايم» فيما يقومون بحركات فيها تذمر ولا تتواءم مع حالة الصيام التي يعلنونها، لتنبيه الناس إلى سوء أفعالهم أثناء الصيام، لكن بعد رمضان ثمة أفكار فنية أخرى مختلفة ستنزل إلى الشارع، لتفاجئ المارة. لكن عبد الرحيم العواجي وهو حكواتي آخر، اختار بيروت مكانا ليقص حكاياته، وهو بخلاف الحكواتيين السابقين، لا يرى غضاضة في أن يستفيد من عبق تقاليد الحكواتيين القدامى وقصصهم الشهيرة يستعيد أجزاء منها. وقد اختار ملك اليمن سيف بن ذي يزن الحميري الذي عاش بين عامي 516 و574 واشتهر بطرد الأحباش من اليمن وتولى الملك فيها. وهذا الملك بات جزءا من القصص الشعبية الشهيرة، التي تفتح أبواب الخيال وتغرف من الأسطورة، كما هو معلوم. وفي أحد مقاهي منطقة الحمراء في بيروت روى العوجي جانبا من رحلة هذا الملك إلى جزر الواق واق لاسترجاع زوجته منية النفوس، وابنه مصر وما شابها من مغامرات وغرائب عجيبة. ثم انتقل العوجي في يوم آخر إلى مسرح دوار الشمس.

يختلف الحكواتيون الجدد في رؤيتهم لمهمتهم، وعمقهم في فهم دورهم ليس فقط في التراث العربي، ولكن أيضا تبعا لما استنتجته الدراسات النفسية الحديثة، التي وجدت أن للحكاية الشفهية دورا كبيرا في التأثير على نفوس الصغار والكبار.

البعض يرى أن الحكواتي مجرد استعادة لفلكلور في طور الاندثار، والبعض الآخر يرى أنه وسيله لنقد الحاضر، بالاستعانة بما بقي للحكواتي في الذاكرة. أما العمل الجاد والعلمي على استعادة الحكواتي العتيق بما له من قيمة في القص، على ضوء الدراسات الحديثة، فهذا لا يزال قليلا ونادرا.