جورج آنسلي يؤرخ لمدينته تولوز بالفوتوغرافيا في القرن التاسع عشر

صور المدينة الوردية فقط بالأبيض والأسود.. لكنه يبقى صانع ذاكرتها

الحياة في تولوز حينذاك، كانت قد تجاوزت الثورة ومآسيها وتعيش بهدوء
TT

كان ذلك في عام 1826، التاريخ ربما ليس مهما، كذلك تحديد الزمان بدقة، أي يوم، أي ساعة، كل هذا غير مهم، على الأقل لم يعد مهما تذكره اليوم. الحدث في كل هذا كان الصورة، ففي ذلك العام التقطت وخرجت أول صورة فوتوغرافيه. من يذكر الآن؟ ربما لا أحد، من يقلب دفاتر الزمان، يعود إلى تلك اللحظة؟ ربما، أيضا، لا أحد. من يحملون آلات التصوير اليوم يزيدون على 3 مليارات نسمة، هل يعرف أحد منهم كيف اتخذت الصورة الأولى؟ ربما لا يتجاوز رقم من يعرفون أصابع اليد. ماذا فعل لكي يلتقطها، كيف أحس، ماذا ارتسم على وجهه من علامات التعجب والاستغراب ماذا فكر بعد ذلك؟! أسئلة صعبة. لا يمكننا معرفة ماذا أحس أو فكر نابوكوف. نعرف أن من صور أول صورة هو نفسه الذي أدخل إلى العالم تقنية جديدة، ترى نفسك على ورقة، في ذلك العام لم يكن هذا بالأمر الهين، لم يكن يتم في دقائق، كان الرسم قبل ذلك هو السيد، مخيلة الفنانين كانت هي المتربعة على كرسي التشخيص، جاءت آلة، صغيرة أو كبيرة، أخذت المجد في ثانية.

في القرن التاسع عشر، من ذلك الزمان، كان التصوير بالآلة أقرب إلى السحر، من حسن حظ جوزيف نيسيفور نيبس أنه لم يكن في القرون الوسطى، لو كان وقتذاك لكان حوكم وعذب ورجم لأنه يجدف ويسير عكس إرادة آباء الكنيسة، آباء الأخلاق، كما وصفوا أنفسهم. من حسن حظه، أنه ابتكر اختراعه الثوري بعد نشوء الثورة الفرنسية، بعد تثبيت مخالبها، وعزل السلطة الأخلاقية اللاهوتية للكنيسة، وإلا لكان واجه مصيرا أسود. بعد ذلك، أصبح للتصوير هواة كثر، لم يكن الاحتراف متيسرا حينذاك. كان التصوير مجرد هواية لأناس تدهشهم الآلة، تدهشهم الصور التي تخرج منها، لكنهم، مع ذلك، يبحثون عن الأجمل رغم سواد الصور وبياضها المستبد. اللونان اللذان اليوم يستبدان بالرومانسية التي يعمل عليها كثر في العالم. رغم كل التصور الهائل الذي دخله مضمار التصوير.

كان الحدث الأول في فرنسا، ولهذا ربما كان الهواة الأوائل فرنسيين، منهم كان جورج آنسلي، شاب من تولوز، الذي كان ابنا لصاحب متجر الساعات شبه الوحيد في القرن التاسع عشر في تولوز، هذه المدينة الوردية. لم يتح لهذا الشاب تصوير مدينته بلونها الجذاب، فقط بالأبيض والأسود. هذا يكفي لكي يكون صانع ذاكرة لمدينة كاملة. حتى باريس، التي صورت مليارات المرات لا تملك صورا بهذه الجاذبية.

في المعرض الذي يقيمه متحف بول دوبوي في تولوز لجورج آنسلي، تظهر ملامح موهبته في الصور، لم يترك آنسلي ركنا أو زاوية أو بيتا من المدينة لم يلتقط له صورة. صور حتى النوافذ وكذلك الحياة اليومية للمدينة وللريف المحيط بها، كما صور رحلة تعتبر نادرة في ذلك الوقت إلى واحدة من أعلى قمم البيرينيه هي البيك دو ميدي التي تحتوي اليوم على مرصد للفضاء وتليسكوبات تعتبر الأضخم في أوروبا. صور آنسلي التي تؤرخ لبناء المرصد الشهير، يظهر فيها 6 حمير و3 رجال وبناء حجري. الرجل الذي يظهر وجهه من بعيد ويرتدي سترة رسمية يبدو أنه من المهندسين المشرفين على المشروع، بينما الرجلان الآخران يرتديان ملابس ذلك الزمان، الملابس التي عرفناها في شرق المتوسط من الجنود العثمانيين ومن بعدهم الفرنسيون الذين جاءوا للحماية.

التفاصيل مهمة. تروي الصور التي التقطها آنسلي في عدسته القديمة سيرة مدينة، وسيرة سكانها كما سيرة فرنسا في جانب مضيء من تاريخها. زمن الثورة الفرنسية، لا يزال يسري في دماء الفرنسيين. وما زالت مبادئ تلك الثورة، حتى بعد جمهورية ديغول، تقول الكثير. لكن الثورة في صور آنسلي غير موجودة، الحياة في تولوز حينذاك، في زمن آنسلي كانت قد تجاوزت الثورة ومآسيها وتعيش بهدوء. لهذا علامات لا تخطئ، بعد كل ثورة، تعود الحياة إلى سابق عهدها. تعود إلى المواءمة الطبيعية.

في صورة، حملت غلاف المعرض، يلتقط آنسلي مشهدا رومانسيا لـ3 نساء يمشين على الماء في الساحة الرئيسية للمدينة، صورة كهذه نراها دوما في لوحات كلاسيكية من المدرسة الانطباعية، لكن بالألوان الزيتية، هذه المرة، مع آنسلي، نشاهدها من لحم ودم لكن بالأسود والأبيض، هما سيدا الألوان. الصورة المعروضة في صدر المعرض، وأخذت غلافه كاملا، تخبرنا عن البعد الأرستقراطي للمدينة التي تحتوي على ثاني أقدم جامعة في فرنسا. غير أنها ليست الوحيدة، وليس البعد الأرستقراطي هو الوحيد. فالمدينة ليست حكرا على هذه الطبقة، هناك العمال والمهنيون والحمالون وسائقو العربات التي تجرها خيول والباعة الجوالون.... إلخ.

يؤرخ معرض آنسلي، أيضا، لبدايات السياحة في فرنسا، في عام 1886 يقوم بزيارة إلى بياريتز على شاطئ الأطلسي، طبعا لم تكن المدينة الباسكية على ما كانت عليه اليوم، لكن عين آنسلي تصور ببراعة السياح الذين يتجمهرون على الشاطئ في منظر يكاد يتكرر سنويا منذ ذلك الزمان، مع فارق الزيادة البشرية الهائلة التي تشهدها المدينة.

غاية القول، هو ما تقوله الصورة. التي بعد قرن ونيف لم تعد مجرد مشهد صامت، بل تجاوزت ذلك بكثير. مع هذا، فإن الصور التي التقطت في ذلك الزمن، وتتميز بصمتها، تخبرنا الكثير عن الماضي الذي لا يمكن أن يبقى محشورا بين دفتي كتاب التاريخ.