أرباب صناعة الخزف في تونس.. الكل يولول «ظلموني»

محمد الأمين لـ «الشرق الأوسط»»: حتى السياح يأتون مشحونين بأن الأسعار في تونس قابلة للمساومة

محمد الأمين لـ«الشرق الأوسط»: أصبحنا نبيع أطباق النحاس لأن الإقبال عليها أكثر
TT

تعد صناعة الخزف من أقدم الصناعات اليدوية التي عرفها الإنسان، حيث تعود إلى أكثر من 6 آلاف سنة. وقد عرفت جميع الحضارات صناعة الخزف وأضافت إليها، وتميزت بذلك عن بعضها البعض رغم البعد الزمني الذي يفصل حضارة عن أخرى في تعاطيها مع الخزف، إذ إن تعاطي الإنسان مع الطين ظهر مع اكتشاف الزراعة والانتقال من مرحلة الصيد والرعي إلى إنتاج الحبوب واللجوء للأرض نفسها لصنع أدوات صنع الطعام والذي سبقه اكتشاف النار عن طريق حجر الصوان.

وقال الخبير في تاريخ الخزف بتونس إبراهيم عمران لـ«الشرق الأوسط»: «تأثرت صناعة الخزف في تونس إلى جانب جذورها البربرية والفينيقية والرومانية ومن ثم العربية بثلاث تقنيات أخرى هي العراقية منذ القرن الرابع الهجري، ثم التركية العثمانية في القرن الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين وأضاف إليها الحرفيون التونسيون التقنيات الصينية في القرن العشرين، ولذلك تتميز صناعة الخزف في تونس بأنها خلاصة الفنون العالمية في مجال صناعة الخزف» وتابع: «تتعرض الأواني الفخارية لدرجة حرارة تزيد عن ألف درجة مئوية، وذلك للحفاظ على تماسك القطعة».

إلى عهد قريب كان هناك آلاف الحرفيين الذين يمتهنون صناعة الخزف، التي كانت تلقى رواجا في السوق المحلية، وفي الخارج حيث تصدر آلاف القطع سنويا إلى الدول الأوروبية مثل إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وسويسرا وغيرها، إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، في منطقة الوطن القبلي، مثل نابل وطبرقة وفي المكنين بالساحل الجنوبي التونسي، والقيروان وغيرها هناك الكثير من الورش لصناعة الخزف، ففي نابل وحدها كان هناك أكثر من ألفي حرفي ونحو ألف ورشة لصناعة الخزف وهناك نحو مائة ورشة تقوم بتصدير إنتاجها من الخزف إلى الخارج، بيد أن هذا الزخم أصبح مهددا حيث تعرضت الصناعات التقليدية للتدمير في العهد السياسي السابق، المخلوع قضى على ثروة وطنية لا تقدر بثمن فهي ثروة مادية وثروة ثقافية وثروة سياحية في سبيل إرساء حداثة متخيلة، إذ أن التطور لا يلغي ما سبق بل هو إفراز له واحتفاظ به وتجاوز تقتضيه الحاجة وليس تقليد الآخرين الذين لهم سياقاتهم الخاصة بهم، فعصر الأنوار في أوروبا لم يبنى على فراغ وإنما على الجذور اليونانية، ثم بدأ يتصالح الآن مع جذوره الأخرى.

أما الحرفي الطاهر بوصاع فقد أشار إلى التطور الحاصل في حرفة الخزف قائلا: «لم نعد نصنع القلال والجرار وأواني إعداد الطعام والأواني التي يقدم فيها الطعام ومواقد الشاي والبخور وإعداد الخبز فحسب، بل أصبحنا نصنع المزهريات واللوحات الخزفية وأشكالا من الثريات التي توضع فيها المصابيح الكهربائية. ومن التطور الحاصل في صناعة الخزف بتونس، إدخال الأفران الكهربائية إلى ميدان العمل بدل الأفران التقليدية التي يحفر لها في أعماق الأرض، أو الأفران الطينية التي توقد بالخشب لكن الأفران الكهربائية مكلفة لذلك تعد القطع الخزفية المعالجة في الأفران الكهربائية أو تلك التي تعمل بالغاز أرفع تكلفة وبالتالي أغلى سعرا، لم نعد نستخدم الدولاب الدائري الذي يعمل بالأيدي والأرجل، وأصبحنا نستخدم دواليب تعمل بالكهرباء وقد ساعدتنا كثيرا في إنجاز أعمال كانت تأخذ منا وقتا طويلا»، وأردف: «الناس لم يعودوا يقبلون على طهي طعامهم في أواني الطين وأخذ الألمنيوم مكان الفخار، ولكن العلم يثبت أن أواني الفخار أكثر صحية وليس لديها أضرار جانبية كغيرها من الأواني». وأردف: «في الوقت الذي يعود فيه الآخرون للطبيعة، نفر نحن للمنتوجات والصناعات التي ثبت ضررها من أجل أن يقال بأننا عصريون ومتطورون».

لا يستخدم الحرفيون نوعا واحدا من الطين في أعمالهم، بل يخلطون عدة مواد من أجل الحصول على نمط ما من الأنماط الخزفية الموجودة في السوق، بل هناك من يخلطون نوعا من الرمل مع نوع من الطين بماء السباخ (جمع سبخة وتسمى في بعض الدول العربية ملاحة بتشديد اللام) ليحصلوا على أشكال فريدة ومبتكرة من الخزف.

ولأن تونس بلد سياحي فإن محلات بيع الخزف، والكثير من الصناعات التقليدية لا تكاد تخلو منها مدينة، وقد سألت «الشرق الأوسط» بعض أصحاب المحلات عن تجارة الخزف وكانت الإجابات مخيبة للآمال، إذ ذكر البعض أنه تمر الأيام دون أن يبيعوا قطعة واحدة، وقال الشاب محمد الأمين عبرود لـ«الشرق الأوسط»: «نعمل في تجارة الخزف منذ 40 سنة، عمل جدي هنا وأخذ مكانه والدي وأقوم بمساعدته، فأنا ما زلت طالبا» وذكر أن السلع يأتون بها من عدة مدن من بينها نابل ولكن المبيعات «صافا با» قالها بالفرنسية، وتعني غير جيدة. لكن أخطر ما أكده محمد الأمين هو أن السياحة التي يعول عليها البعض في تسويق بعض المنتوجات التقليدية لم تعد الدجاجة التي تبيض ذهبا «حتى السياح الذين كنا نبيعهم بعض منتوجات الخزف لم يعودوا كما كانوا في وقت مضى فهم يأتون مشحونين ببعض المعلومات الخاطئة وهي أن الأسعار في تونس قابلة للمقايضة فعندما أقول له إن ثمن القطعة التي يرغب في اقتنائها أربعين دينارا (الدينار نحو نصف يورو) يقول هو أشتريها بعشرة دنانير» وعمن يشتري منهم بعض المقتنيات كشف عن رافد جديد لم يكن يعمل في السابق أو لم يكن بالشكل الذي ينبئ عنه الوضع الحالي وهو التونسيون بالخارج «عندما يأتي التونسيون بالخارج في عطلة يأخذون معهم بعض الهدايا للأصدقاء وأحيانا للاستعمال الشخصي، أي أشياء تذكرهم برائحة البلاد كما يقولون».

العصر الذهبي لصناعة الخزف كما يقول محمد الأمين، يعود للثمانينات «في ذلك الوقت كان هناك إقبال من قبل السكان والسياح، كانت هناك طفرة في العالم، ومنذ 10 سنوات أو أكثر كثرت السلع الرخيصة الوافدة من الخارج، والتي جلبتها العائلات المتنفذة، وهناك دعاية مضادة ضد مدن بذاتها من قبل الأدلاء السياحيين يقف وراءها من يدفع لهم مقابل ذلك» ويحمل أرباب الصنعة الحكومات المتعاقبة المسؤولية عن تدهور صناعة الخزف في تونس «لم يكن هناك اهتمام بهذه الصنعة ومن ينتمي إليها سواء كانوا من الحرفيين أو أصحاب الورش والتجار».

ويشتكي أصحاب الورش والمحلات من الضرائب البلدية الباهظة «يأخذون ضرائب على مكان التصنيع ومكان وضع السلعة في الداخل وضرائب على مقدمة المحل وندفع في العام 240 دينارا علما بأن هذا المكان الصغير يعيل 7 أنفار، ويمر الأسبوع والأسبوعان دون أن نبيع قطعة واحدة».

تدهور وضع الخزف جعل البعض يلجأ لبيع المقتنيات الشبيهة من النحاس «نبيع أطباق النحاس، وهي قابلة لأن ينقش عليها اسم المهدى له وهي تلقى رواجا أكثر من الخزف أو السيراميك» وتوجد في هذه المحلات أشكال مختلفة من الهدايا الخزفية والنحاسية في أشكال «الخمسة» كما يطلق عليها التونسيون، أو «الخميسة» في بلدان عربية أخرى، وأشكال تشبه دوار الشمس ويطلق عليها التونسيون «الشمس» وعلى بعض الأطباق صورة جامع عقبة بن نافع بالقيروان، وأخرى وضعت عليها خارطة تونس، وأخرى وضعت عليها صورة جمل، وعبارات بالخط الكوفي «يوم لك ويوم عليك» وهناك أطباق لوضع الحلويات وأخرى للمكسرات وثالثة للزينة، كما توجد أطباق لوضع الطعام، والسلطات، وأطباق خاصة بالسمك المشوي أو المقلي، وحاويات لأنابيب الكهرباء وحاويات جميلة للفوانيس.

> تأثرت صناعة الخزف في تونس، إلى جانب جذورها البربرية والفينيقية والرومانية ومن ثم العربية، بثلاث تقنيات أخرى هي العراقية منذ القرن الرابع الهجري ثم التركية العثمانية في القرن الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وأضاف إليها الحرفيون التونسيون التقنيات الصينية في القرن العشرين.

> العصر الذهبي لصناعة الخزف، كما يقول محمد الأمين، يعود للثمانينات: في ذلك الوقت كان هناك إقبال من قبل السكان والسياح، كانت هناك طفرة في العالم، ومنذ 10 سنوات أو أكثر كثرت السلع الرخيصة الوافدة من الخارج.