تقليص الفجوة بين الشرق والغرب في مهرجان «إدنبره فرينج ثياتر»

نظرة إلى رائد المسارح التجريبية في العالم

من العرض الإيراني وفي الاطار المخرج عمر هاملتون («الشرق الأوسط»)
TT

الآلاف من الاستعراضيين يتخذون مواقعهم في عدد من المسارح على امتداد إدنبره، عاصمة اسكتلندا، لتقديم عروض ترضي جميع الأذواق في إطار مهرجان «إدنبره فرينج ثياتر» التجريبي الشهير، وهو الحدث المسرحي الذي ينظّم في شهر أغسطس (آب) من كل عام، ويعد أكبر مهرجان مفتوح للفنون في العالم.

ويتضمن المهرجان، الذي يجعل المدينة في حالة من الجنون الفني، العديد من الفنانين بدءا من الأسماء الكبيرة في عالم الترفيه وانتهاء بفنانين مغمورين يتطلعون لبناء حياتهم المهنية. وهو يقدم تشكيلة كبيرة من الفنون المسرحية، تشمل الدراما والكوميديا والرقص، إلى جانب المسرح الإيمائي، والاستعراض والأوبرا والموسيقى والمعارض والأحداث الفنية.

وحسب كاث مانلاند، الرئيسة التنفيذية للمهرجان، فإن الأرقام تؤكد أن المهرجان كان «حدثا ناجحا للغاية»، واجتذب ما يقرب من 21200 ممثل وكوميدي وراقص وراقصة وفنان قدموا نحو 41700 عرضا فنيا. كذلك يقدر عدد التذاكر التي اشترها جمهور المهرجان بنحو 1.88 مليون تذكرة على مدى الأسابيع الأربعة الماضية، مما يشكّل زيادة صغيرة عن الـ1.83 مليون تذكرة التي بيعت العام الماضي. وأضافت مانلاند قائلة: «إن شجاعة وإبداع آلاف الأفراد الذين يشاركون في هذا الحدث العالمي الفريد يجعلان منه مهرجانا ملهما ومهما. إن تجمع الفنانين من جميع التخصّصات والخلفيات، معا لسرد قصصهم وتبادل أفكارهم، لأمر في غاية الجاذبية بالنسبة للجمهور، الذي توافد إلى إدنبره، مدينة المهرجان الجميلة».

وبما يخص موضوع شهر أغسطس (آب) لهذا العام «الشرق يقابل الغرب»، تظهر أهمية توجيه الاهتمام الدولي لهذا الحدث الفني الذي يعد من أكثر الأحداث الفنية مساواة وديمقراطية على مستوى العالم، وذلك من خلال المناقشة التي جرت في البرلمان الاسكتلندي بعنوان «إلى أين سيذهب الربيع العربي؟».

فهنا نوقشت مسألة ما إذا كان التدخل من جانب الغرب في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كافيا، أم قليلا أم أنه، في الواقع، يلقى ترحيبا من شعوب المنطقة. ولقد دارت المناقشة بين ألان ليتل، المراسل الخاص لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، والمخرج السينمائي المستقل عمر هاملتون، الذي استخدم موقع «تويتر» إبّان ثورة القاهرة لنقل الصور وردود أفعال الشارع، والمحامي مارك مولر ستيوارت، مدير مبادرة «وراء الحدود» و«مؤسسة دلفينا» ورئيس لجنة محامي حقوق الإنسان في إنجلترا وويلز، وإد أو المصوّر الصحافي الحائز على جائزة «صورة الصحافة العالمية» الذي وثّق أحداث الثورة الأخيرة في مصر، والدكتور فلورنس جاوب، المنسق الأكاديمي في كلية الشرق الأوسط بمعهد دفاع الناتو.

وخلص المحامي مولر ستيوارت إلى أنه «بعيدا عن تدخل الحكومات والدول، يمكن للمجتمع المدني في أوروبا أن يساعد المجتمع المدني في الشرق الأوسط»، لاعتقاده أن «ثراء المجتمع المدني عبر الثقافات يستطيع خلق تغيير أكبر مما يعتقده المرء، مفضيا لازدهار حقيقي للروح البشرية».

من ناحية أخرى، أثبت مهرجان إدنبره لهذا العام أنه أرض خصبة لحدوث تبادل على قدم المساواة بين الثقافات عند مستوى عال من العمق التجريبي والنفاذ. إذ صهرت العروض التقنيات التقليدية والحديثة معا، ومزجت بين تقنيات وأساليب المسرح من مختلف أنحاء العالم بطرق مبتكرة للغاية، وبخاصة العرض المسرحي «الأحجبة الحريرية»، وهي حكاية من تأليف ليلى الغزنوي، تجمع بين شعر جلال الدين الرومي ومسرح العرائس والأداء الحي والرسوم المتحركة والتاريخ الإيراني.

وثمة أيضا العرض المسرحي «نونونو»، وهو أداء بَصَري يقدم فيه ثلاثة مخرجين من ثلاث قارات رؤيتهم البصرية والصوتية لثلاثة من الأعمال المسرحية اليابانية للأديب الياباني الشهير يوكيو ميشيما «هانشو» و«كانتن» و«سوباتا كوماشي». ويجري تقديم النسيان والذاكرة في هذا العرض من خلال فن العرائس، والوسائط والخدع البصرية.

ويحكي العرض المسرحي «روز» للكاتب الشهير هيويل جون، الذي يقوم ببطولته آرت مالك، الممثل الحائز جائزة السينما والمسرح، عن معاناة مهاجر من منطقة الشرق الأوسط في تربية ابنته الإنجليزية المولد.

وتتبع مسرحية «موتور تاون» لمؤلفها سيمون ستيفنز، رحلة داني، الجندي السابق، الذي يعود من البصرة بجنوب العراق إلى وطنه بريطانيا، التي أصبحت بالنسبة إليه بلدا غريبا مختلفا تماما عن تلك التي كان يعرفها، وذلك بعدما بات كل شيء غير مألوف عنده. وكانت هذه المسرحية قد عرضت لأول مرة على مسرح الـ«رويال كورت» في عام 2006. ويتيح لنا هذا النص المسرحي المحكم والصادم أن نرى ما يحدث داخل العقل المضطرب لجندي سابق، كاشفا عن الرحلة النفسية التي يعيشها كثرة من الجنود عند عودتهم من حياة الجندية إلى الحياة المدنية من جديد.

المهرجان التجريبي - أي «إدنبره فرينج ثياتر» - نفسه انطلق عندما حضرت ثمان من الفرق المسرحية، من دون دعوة، إلى حفل افتتاح مهرجان إدنبره الدولي عام1947، الذي نهض من ركام ما خلّفته الحرب العالمية الثانية من منطلق الإيمان بقدرة الفن على تغذية وتحويل «روح الإنسان».

وهو يعتبر مهرجانا حرا، مما يعني استعداده لاستقبال أي حدث فني، وغالبا ما يعرض المهرجان أعمالا تجريبية قد لا يسمح بعرضها في المهرجانات الفنية الأكثر رسمية. وإلى جانب العروض المدرجة في البرنامج الرئيسي، والتي لا بد من شراء التذاكر لدخولها، ثمة عروض تقام في الشوارع من جميع الأشكال والأحجام.

وفي وقت لاحق أسّست «جمعية فرينج» لإضفاء الطابع الرسمي على هذه العروض الجماعية المتنوعة، التي تتولى الآن نشر برنامج المهرجان، بالإضافة إلى إدارة شباك مركزي للتذاكر. ومن ثم كُتبت لائحتها التنظيمية تمشيا مع الروح التي جلبت الفرق المسرحية إلى إدنبره عام 1947، وهي تنص على أن الجمعية لا تشارك في وضع برنامج المهرجان. وفعلا، حتى يومنا هذا لا تزال هذه السياسة هي عماد المهرجان، فأي شخص لديه قصة يريد أن يرويها، ويجد مكانا على استعداد لاستضافة عرضه يصار إلى إدراجه على الفور في البرنامج. ويُجمل مايكل ديل، مدير المهرجان، بين عامي 1982 و1986، هذا النوع من الفوضى الفنية بشكل أفضل، في كتابه «حناجر ملتهبة وتيارات فوقية»، بقوله: «لا أحد يستطيع أن يحدد الطبيعة النهائية للمهرجان. وهو أمر لا يهم كثيرا، في الواقع، إذ ليس هذا هو الغرض من المهرجان.. المهرجان عبارة عن منتدى فريد من نوعه في المملكة المتحدة، وفي العالم كله، للأفكار والإنجازات.. فأين يمكن أن يحصل كل هذا في مكان آخر، ناهيك عن نجاح مثل هذا العمل؟».

أيضا، تأتي المسارح نفسها في شتى الأشكال والأحجام أيضا، مع محاولة استغلال كل مساحة ممكنة سواء كانت مسارح حقيقية، أو مسارح أعدت في عجالة، أو قلاعا تاريخية، أو قاعات محاضرات، أو مراكز مؤتمرات، أو غرف جامعات وغيرها من الأماكن والمباني المؤقتة والكنائس وقاعات الكنائس والمدارس، بل حتى المراحيض العامة، والأجزاء الخلفية من سيارات الأجرة، والمنازل الخاصة بالجمهور.

وتتميز الجماعات التي تدير هذه الأماكن، بدورها، بالتنوع الشديد. فبعضها تجاري والبعض الآخر لا ربحي، ومنها ما يعمل على مدار السنة، بينما البعض الآخر موجود فقط لتشغيل المكان خلال فترة المهرجان.

والحقيقة أن مفهوم «الفرينج ثياتر» انتقل من هنا إلى جميع أنحاء العالم. وأكبر وأكثر هذه المهرجانات المشابهة اليوم مهرجان «أديلايد فرينج ثياتر» في مدينة أديلايد الأسترالية، والمهرجان الوطني للفنون في غراهامستاون بجنوب أفريقيا، ومهرجان «إدمونتون فرينج إنترناشيونال» في مدينة إدمونتون بكندا.

ولكن على الرغم من انتشار ظاهرة المسارح التجريبية يظل مهرجان إدنبره الرائد نقطة الانطلاق الحقيقية للمواهب الجديدة، ولا سيما مع نجاح كثيرين من الفائزين السابقين بجوائز المهرجان وتحقيقهم شهرة واسعة على المستوى العالمي.

وراهنا تسعى كثرة كاثرة من الفرق والجماعات المشاركة في المهرجان للحصول على تقييم إيجابي، سواء من وسائل الإعلام الاسكتلندية أو من مزيج من التقييمات المطبوعة والتقييمات الإلكترونية الموجودة على شبكة الإنترنت، أو حتى من الصحف البريطانية الكبرى التي تصدر من لندن مثل «الغارديان»، و«الإندبندنت» و«التايمز».

بالإضافة إلى كل ذلك، يأتي الصحافيون والنقاد من جميع أنحاء العالم إلى إدنبره خلال فترة المهرجان، وينشرون تقاريرهم ومقالاتهم النقدية في وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم. وهناك أيضا عدد متزايد من الجوائز لعروض المهرجان، خاصة العروض الدرامية، إذ خرجت من إدنبره عروض عديدة مهمة وأعداد كبيرة من الكتاب والفنانين الناجحين.