ليلة إبداع وتألق في العاصمة النمساوية فيينا لـ«أوركسترا النور والأمل» المصرية

جمهور عريض حيا العازفات الكفيفات في محطة بارزة من جولتهن الأوروبية

لقطة جامعة لأعضاء الفرقة على خشبة المسرح في «القصر البلدي» بفيينا («الشرق الأوسط»)
TT

تابع الجمهور بأنفاس محبوسة وصمت مطبق، وصول العازفات وكل منهن تمسك بيد الأخرى متحسسات الطريق إلى مواقعهن، وما إن أتممن عملية ضبط آلاتهم الموسيقية، في غياب تام لأي نوتة موسيقية أمامهن، حتى توسط المايسترو المسرح لا ليشير بعصاه المعهودة، بل ليطرق قبل كل معزوفة بأصابعه 1، 2، 3، ومن ثم ينساب عزفهن جميلا سلسا كالنيل الدافق، رقيقا في بعض الأحيان، وصاخبا في أحيان أخرى.

فاطمة ومروة وجيهان ومريم ونهلة، بالإضافة إلى 31 عازفة هن مجموع أعضاء فرقة «أوركسترا النور والأمل» المصرية للكفيفات، التي استضافتها العاصمة النمساوية فيينا، يوم أول من أمس، في حفل مجاني أقيم في قاعة المجلس البلدي «الرات هاوس»، أفخم قاعات المدينة وأعرقها. ووسط حضور نمساوي وعربي وعالمي متشوق ومقدر، قدمت الفرقة 16 مقطوعة، بينها فالز «الدانوب الأزرق» للمؤلف النمساوي الأسطورة يوهان شتراوس، كما قدمت مختارات مصرية، كـ«الرقصة الفرعونية» لرأفت غارنا، و«على شاطئ النيل» لأحمد أبو العيد.

تكونت «أوركسترا النور والأمل» في مطلع عقد الستينات من القرن الماضي، بجهد عدد محدود من سيدات خيرات، وضمت عددا محدودا من كفيفات موهوبات موسيقيا، وهي اليوم تشكل «هرما» موسيقيا ثقافيا يدعو إلى الفخر. ويعد حفل فيينا أمسية الخميس الحفل العالمي رقم 24 للأوركسترا النسائية، التي سبق لها أن زارت وأدت في اليابان وتايلاند والسويد وإسبانيا وقطر والكويت ودول أخرى، وهو الثالث لها في العاصمة النمساوية التي كانت قد حظيت بأول عرض عالمي للفرقة عام 1988. إلى ذلك، ستواصل الفرقة جولتها الحالية في عدد من دول الجوار النمساوي، بينها الجمهورية التشيكية والمجر وسلوفينيا، قبل أن تختم بحفل في مدينة غراتس، ثاني كبرى المدن النمساوية، وعاصمة إقليم شتيريا.

تعتمد العازفات على الحفظ اعتمادا كاملا، لاستحالة قراءة النوتة لمسا أثناء العزف المباشر، في حين تصبح النوتة بطريقة «برايل»، التي تحولها إلى إشارات وحركات يتلمسنها، وسيلة من الوسائل التعليمية التي يعتمدن عليها في دراستهن. وردا على سؤال طرحته «الشرق الأوسط»، ذكرت جيهان مصطفى، عازفة الكونترباص وحاملة شهادة ليسانس آداب - قسم الفلسفة في جامعة عين شمس، أن «الدراسة الموسيقية لأعضاء الفرقة تتنوع ما بين نظرية وتطبيقية، وهارموني وسولفيج، مع تدريب سماعي»، مشيرة إلى أن «التدريبات تبدأ من الفصل الثاني ابتدائي، مما يطور العزف من هواية إلى احتراف، ويعكس إمكانات هائلة تسعى العازفات لنقلها بصورة تساعد على كسر الصورة النمطية السائدة عن أصحاب الإعاقات أو ذوي الاحتياجات الخاصة».

وأثناء فترة الراحة، التي قسمت برنامج الحفل إلى قسمين، ظلت العازفات باقيات في مواقعهن، مما وفر لـ«الشرق الأوسط» فرصة نادرة لتبادل الحديث والدردشة مع بعضهن من على خشبة المسرح، بالإضافة إلى التعرف على نوعية الآلات التي تضمها الفرقة، وتنقسم إلى 4 أقسام: هي الآلات الوترية التي أكثرها استخداما الكامن (الفيولين) والفيولا والتشيلو والكونترباص، الآلات النفخية التي تضم الأبواق والمزامير على أنواعها، مثل الفلوت والأوبوا والفالوجوتا والكورنو والترومبيت والترومبون، والآلات الإيقاعية كالطبول والدفوف من مختلف الأحجام والأصناف، وأخيرا الآلات الخشبية الأخرى المتنوعة.

وحسب العازفات، وجميعهن يلتزمن بزي أنيق موحد، يتكون من فستان طويل أسود اللون، بأكمام طويلة مع إطار زخرفي ملون لفتحة العنق، بما يشبه العقود الفرعونية، مع غطاء رأس (حجاب) من اللون الأبيض بطرف ذهبي مفضض، ومع حذاء أسود لامع من دون كعب. وفي العادة، كما قلن يتدربن نحو 4 ساعات أسبوعيا، تنتظم لساعتين يوميا في ظروف الحفلات والبرامج غير العادية، وقد تصل إلى 10 ساعات في اليوم.

وتتراوح أعمار العازفات، وأصغرهن هبة أحمد ومريم كمال، ما بين 15 و16 سنة. فمنهن من تجاوزت أعمارهن الـ50 سنة. كذلك تتفاوت بالضرورة خبراتهن وعدد السنين التي أمضينها كأعضاء في الفرقة. وعلى سبيل المثال تعزف إحداهن، واسمها زينب لكنهن ينادينها احتراما بـ«الأبلة» منذ 30 سنة. وفي سياق آخر، بدا واضحا مدى التفاهم السائد بينهن وقائد الفرقة المايسترو، الدكتور علي عثمان، الذي يتفاهم مع العازفات من على خشبة المسرح، مشيرات إلى أنهم يتفاهمون بتكتيك ولغة صوتية لا يسمعها الجمهور، ومضيفات أن المايسترو ليس مهارة موسيقية فحسب، بل هو خبير متدرب ومتمرس في مجال التعامل مع الأكفاء.

من ناحية أخرى، بدا جليا مدى التقدير والإعجاب السائد بينهن، مما انعكس في مشاركتهن تصفيقا وإطلاق كلمات استحسان، وتشجيعا لمن تفردن منهن بالوقوف لعزف مقاطع مصحوبة بصورة أقل من بقية الفرقة. وكمثال على ذلك عازفة الفلوت عايدة التي ساعدها المايسترو لتتوسط مقدمة الفرقة، فأبدعت في النفخ على مزمارها، الذي ذكر الحضور بما قصده المبدع الموسيقي النمساوي الأول ولفغانغ موتزارت بوصف «المزمار السحري». ولم تقل عنها إبداعا العازفة بسمة التي لاعبت أوتار الكمان برهافة وإتقان متميزين، إلى درجة أن أحد الحضور من المصريين لم يتمالك نفسه فعلق بصوت مسموع على المايسترو وهو يصفق وابتسامته عريضة: «بص ازاي المايسترو متكيف أوي».

وبينما أزجت «الشرق الأوسط» تهنئة حارة لـ«عروس» الفرقة العازفة مها محمد، روت عازفة الكلارينت، نورة فتحي، أطرف موقف عايشنه، بينما زميلاتها يتابعن ضاحكات بما يدلل على أريحيتهن وروحهن المرحة وثقتهن العالية، وهو أنهن أثناء رحلة إلى سويسرا تناولن الطعام في مطعم خاص اسمه «البقرة العمياء»، يقوم على خدمته ندلاء أكفاء، وجدوا في العازفات خير زبائن. ومما يستحق الذكر، أنه عقب حفل سابق للفرقة، قال فرانس فرانيتسكي، وكان مستشار النمسا حينها، إن «أوركسترا النور والأمل» ملأت فيينا بالموسيقى. ويوم أول من أمس، وبشهادة جمهور عريض ظل يصيح مطالبا بالمزيد، أحيت «أوركسترا النور والأمل» ليلة ذات نكهة مميزة تضاف لليالي الأنس في فيينا.