روابط «الألتراس» الرياضية.. من شغب الملاعب إلى معترك السياسة

اعتبرهم البعض من محركات ثورة 25 يناير في مصر

الشرطة المصرية.. على خط المواجهة في ملاعب الرياضة
TT

مع أن طبيعة المشجعين الرياضيين المتعصبين غالبا ما تبقيهم ملتفين حول ملاعبهم أكثر من اهتمامهم بباقي مناحي الحياة، فإن روابط المشجعين الرياضية المعروفة باسم «الألتراس» أثبتت أن التشجيع وشغب الملاعب قد يتحول في لحظات إلى عنصر من العناصر المجتمعية والسياسية ذات الشأن. وبلغ الأمر في مصر أن هناك من المحركات الفاعلة في ثورة 25 يناير، وبخاصة بعد ما شهدته ملاعب أكبر الأندية المصرية مؤخرا من صدامات بين الجماهير وقوات الأمن، على خلفيات تخلو تماما من الأهداف أو الانتماءات الرياضية.

ظاهرة روابط المشجعين، كما هو معروف، قديمة قدم ظهور الرياضات المختلفة، إلا أن وجود اتصال وتنسيق بين مشجعي فريق معين أو رياضة معينة، بطريقة منظمة، ما كان ليوجد لولا روابط المشجعين «الألتراس». ومن هذه النقطة بالتحديد تأتي أهمية التعرف على فكرة الروابط بين المشجعين، كونها تساعد على تخطي حدود مجرد تشجيع فريق أو لعبة معينة، وصولا إلى التنسيق بين أعضاء الرابطة، وتحديد المشترك بينهم في مجالات أخرى، قد تبتعد أو تقترب من الرياضة.

كلمة «الألتراس» (Ultras) كلمة لاتينية تعني حرفيا «الفائق» أو «الزائد عن الحد»، أما المعني من ورائها فهو التعبير عن المجموعات التي تعرف بانتمائها وولائها الشديد لفرقها. ونشأت الفكرة أصلا في المجر عام 1929، بعدما أسس مناصرو نادي فرنسفاروش الشهير رابطة للمشجعين، ومن ثم انتقل العدوى إلى أميركا الجنوبية عبر بوابة البرازيل. وهناك أسست أول «ألتراس» باسم «تورسيدا» في أربعينيات القرن الماضي، وذلك لكسر حاجز التشجيع الكلاسيكي السائد في تلك الفترة.

وبعد ذلك، توالى ظهور «الألتراس» في قارة أوروبا عبر جماهير نادي «هايدوك سبليت» الكرواتي - اليوغوسلافي في ذلك الحين - عام 1950، وجماهير نادي تورينو في إيطاليا ولكن بشكل أكثر تنظيما. وفي فرنسا يعود الفضل في إدخال ثقافة «الألتراس» إلى البلاد لجماهير نادي مرسيليا عبر «ألتراس كوماندو»، وحقا غزت جماعات «الألتراس» الأراضي الفرنسية انطلاقا من الثمانينات، ثم دخلت بريطانيا وباقي البلدان الأوروبية، حيث أصبحت روابط «الألتراس» من أساسيات لعبة كرة القدم، لما تضفيه من طابع خاص على أجواء المباريات، إضافة إلى تحققه من أرباح للأندية من خلال الحضور الكبير للجمهور في المدرّجات.

أما عربيا، فلا تزال مجموعات «الألتراس» العربية في بداياتها، وكان أول ظهور لـ«الألتراس» في تونس بنهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين عبر «ألتراس» النادي الأفريقي التونسي تحت مسمى «الأفريكان وينرز»، وما تلته من «ألتراس» الأندية التونسية. ولليوم تعد تونس الأبرز عربيا على صعيد «الألتراس»، ومنها انتشرت الظاهرة في المغرب العربي ثم وصلت إلى مصر عام 2007، وهي تنتقل الآن إلى البلدان العربية في الخليج العربي وآسيا، لتملأ أرجاء مدرجات وملاعب العالم العربي تباعا.

هذه الظاهرة أخذت تدخلا من ملاعب الرياضة إلى منابر السياسة وكواليسها منذ أمد بعيد، ففي إيطاليا خلال ستينيات القرن الماضي كلفت مجموعات «الألتراس» الحكومات الإيطالية المتلاحقة أعباء كبيرة للغاية، سواء أمنية أو اجتماعية أو حتى على مستوى كرة القدم الإيطالية نفسها. إذ تحكم «الألتراس» عقيدة الولاء للنادي، ومعها يكون الانتماء المفرط للنادي خاسرا كان أو فائزا أولوية لا مفرّ منها. وأهم مظهر للولاء للنادي هو التمويل، وعلى الرغم من «الدخلة» التقليدية واللوحات الفنية المقدمة في بداية كل مباراة، فإن مصادر تمويل هذه الروابط تعتمد على التمويل الذاتي من خلال أفرادها الذين يشتركون في دفع تكاليف الأعلام واللوحات الفنية قبل المباريات.

غير أن فكرة الولاء التام للنادي سهلت من ناحية أخرى تسرب أفكار أخرى متعصبة إلى روابط المشجعين، ففي العاصمة الإيطالية روما تحول «ديربي» كرة القدم التقليدي بين فريقي ناديي العاصمة لاتسيو وروما - على سبيل المثال - إلى مواجهات ذات نكهة سياسية، لكون الغالبية من مناصري روما ميالة إلى اليسار وإدماج الأجانب في المجتمع الإيطالي، بينما تميل غالبية مناصري لاتسيو إلى اليمين وبعضها يعبر صراحة عن أفكار عنصرية. وبناء عليه، اتجهت روابط المشجعين، حقا، من ملاعب الرياضة إلى المنابر السياسية، وغدت كل رابطة تعبر عن أفكار معينة في ما يخص الأوضاع السياسية، وربما الاقتصادية، بينما تتوارى روح الرياضة خلف الأبعاد الجديدة.

هذه الفكرة لم تكن بعيدة عن الرياضة المصرية، إلا أنها تجسدت بشكل أو بآخر في بعض المضامين التي قد لا يعير كثيرون اهتماما. فمشجعو النادي الأهلي المصري، مثلا، يعتبرون ناديهم ناديا «وطنيا» على اعتبار أن مصطفى كامل، الزعيم الوطني إبان الاحتلال الإنجليزي، كان أحد مؤسسيه مع عمر بك لطفي. ومع أن هذه الأفكار يجري تداولها على سبيل التندر والفكاهة، فهي تحمل مضامين مهمة، لأنها تعني بطريقة ما أن فكرة الروابط يسهل اختراقها وقد تنتقل بعيدا عن «المستطيل الأخضر» لتعبر عن أفكار، بل عقائد، لا علاقة لأغلبها بكرة القدم. وهذا الأمر يتضح أكثر مع استحسان عدد من الفصائل السياسية في «مصر بعد الثورة»، منها جماعة الإخوان المسلمين، فكرة إنشاء ناد كروي لها، ربما يحمل عقائدها وأفكارها، وبالتبعية، تحمل روابط المشجعين الخاصة به هذه الأفكار.

حتى الآن لا توجد قواعد أو قوانين منظمة لـ«الألتراس» باستثناء الإجراءات المشددة أو الغرامات التي تصدرها اتحادات الكرة في البلدان المختلفة كمحاولات لكبح أحداث الشغب ومكافحتها. ولكن هذه الإجراءات في النهاية تقع على عاتق الأندية ولا تتحمل مجموعات روابط المشجعين مسؤوليتها. وهكذا تظل «الألتراس» متحررة من أي قيود قانونية، على الأقل، إلا تلك التي قد يتضرر منها فريق ناديها جراء أفعالها، وهو ما يساعد قليلا على ترشيد سلوكها إلى حد ما.

وعلى الرغم من منع الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» استخدام أي شعارات سياسية أو دينية داخل الملاعب، فإن «الألتراس» قد لا تكترث لهذه القواعد، إذ تتضمن «الدخلة» التي يؤديها أعضاء الألتراس قبل بداية كل مباراة لفريقهم في بعض الأحيان رفع شعارات سياسية. وكان وراء الاشتباكات التي وقعت قبل بضعة أيام بين جمهور «ألتراس» النادي الأهلي وبين قوات الشرطة المصرية ترديد جماهير النادي ألفاظا اعتبرتها الشرطة شعارات سياسية، واعتبرتها المصادر الأمنية «استفزازية».

كذلك سبق أن حدث الكثير من المشكلات للسبب نفسه قبل أسابيع، حين ألقت الشرطة الكويتية القبض على بعض مشجعي النادي الأهلي المصري في أعقاب لقاء ودّي جمع بين الأهلي وفريق نادي السالمية الكويتي، وذلك بعد رفع الجماهير المصرية لوحات بأعلام الدول العربية، وهو ما اعتبرته الشرطة الكويتية تحريضا وإثارة للجماهير الكويتية.

وعقب اندلاع الثورة المصرية يوم 25 يناير (كانون الثاني) الماضي، الذي تزامن مع يوم «عيد الشرطة» اعتبر أعضاء «الألتراس» أنفسهم، منذ الشرارة الأولى للثورة، جزءا فاعلا في أحداثها ضد ممارسات الشرطة القمعية. وتناسى أعضاء هذه الروابط هموم أنديتهم ونظموا أنفسهم هذه المرة من أجل هموم الوطن، وبالتالي، لم يكن غريبا أن تتغير ظاهرة «الألتراس» في مصر من ظاهرة رياضية تجمع محبي وعشاق الأندية الرياضية وترغب في مساندة فرقها، إلى ظاهرة سياسية في ظل الأحداث التي تشهدها البلاد. ولا يزال طي الغيب ما يمكن لظاهرة «الألتراس»، التي أحدثت طفرة نوعية في كيفية وطريقة تشجيع الفرق، ما يمكن أن تحدثه إذا ما انخرطت فعليا في المعترك السياسي، خاصة في بلد يشهد مرحلة انتقالية حرجة.

والواقع أن المنافسات الرياضية في مصر، عقب ثورة 25 يناير، تجاوزت مجرد التشاحن بين جماهير فريقين متنافسين لتدشن علاقة جديدة ذات نكهة سياسية، ليس فقط بين الجماهير بعضها البعض، بل كحالة تجمع جماهير «روابط المشجعين» من ناحية بمواجهة قوات الشرطة المصرية في ناحية أخرى. وترتسم أوجه هذه العلاقة في الدور الذي لعبته روابط المشجعين هذه في الثورة، ومواجهتها قوات الشرطة قبل ستة أشهر، بدايةً من يوم 25 وحتى يوم 28 من يناير، وهو اليوم الذي انسحبت فيه قوات الشرطة لتتحوّل ملاعب الرياضة خاصة كرة القدم، إلى ساحات تجدد فيها هذه المواجهة بشكل أو آخر في المباريات.

وتعد الاشتباكات الأخيرة، التي وقعت ليلة الثلاثاء الماضي، فصلا جديدا من فصول هذه العلاقة. إذ أسفرت الاشتباكات خارج استاد القاهرة بين مشجعي النادي الأهلي وقوات الشرطة، التي كانت تؤمن اللقاء، عن إصابة العشرات من الجانبين وإقدام بعض المشجعين على إحراق أكثر من 16 سيارة ما بين سيارات شرطة وسيارات لمواطنين.

مصادر أمنية بوزارة الداخلية المصرية أعلنت من جانبها أن «قوات الأمن تعرضت لاستفزازات من قبل الجماهير عقب ترديدهم هتافات معادية لقيادات الأمن وإلقاء الألعاب النارية عليها وتكسير بعض المنشآت، مما دعا الشرطة للتدخل للحفاظ على المال العام». كذلك أصدرت وزارة الصحة المصرية بيانا قالت فيه إن الاشتباكات أسفرت عن إصابة نحو 130 شخصا، ولكن لم تسجل بينهم أي حالات وفاة. في حين أكد شهود عيان أن الجمهور لم يبدأ بالعنف تجاه رجال الشرطة، الذين بادروا هم بالهجوم على المشجعين بعد سبابهم وزارة الداخلية، التي اعتبروها مسيئة لهم وللوزارة. ولم تقتصر الأمور على هذا، ذلك أن الكثير من أعضاء «الألتراس» كانوا موجودين أمام مقر محاكمة الرئيس المصري السابق حسني مبارك في أكاديمية الشرطة أثناء جلسات المحاكمة في الأسبوع الحالي. ولقد انتشرت قوات الأمن المركزي وشكلت نطاقا أمنيا حول مجموعة «الألتراس» لمنع حدوث أي اشتباكات محتملة بينها وبين قوات الأمن، بينما تجمع عدد آخر أمام نيابة الحي السابع، شرق القاهرة، مرددين بعض المشجعين هتافات ضد الشرطة، ومطالبين المجلس العسكري بالإفراج عن زملائهم المعتقلين.