خبير الحلي التونسي: الصناعات التقليدية منتشرة.. والقيروان عاصمتها

محمد ناصر الدين الخضراوي لـ«الشرق الأوسط»: الثقافة والبيئة فرضتا نفسها على الإنتاج

الحلي زينة وادخار واستثمار في تونس كما في البلاد العربية («الشرق الأوسط»)
TT

يشكل معدن الذهب ما نسبته 005.0 جزء من المليون من القشرة الأرضية، وقد بدأ الإنسان في استخدامه منذ أكثر من 5 آلاف سنة. وتشير التقديرات إلى أنه تم تعدين أكثر من 130 ألف طن من الذهب حتى سنوات قليلة خلت. ويستخدم الذهب في عدة تقنيات كالإلكترونيات وتلسكوبات الفضاء، ويعد من أفضل المعادن في توصيل الكهرباء، إذ إن الذهب لا يتفاعل مطلقا مع الأكسجين، كما أنه لا يصدأ ولا يفقد بريقه، وقد بدا عند استخراج كميات كبيرة منه من قبر توت عنخ أمون سنة 1922 في حالة ممتازة كما لو كان وضع في القبر للتو، بينما يعود ذلك لسنة 1352 قبل الميلاد. وخواص الذهب كثيرة ولا يتسع لها المقام.

وللذهب في تونس تقاليد راسخة منذ القدم، وقد تأثرت صناعته بثقافات وبيئات مستعمليه. وقال رئيس لجنة الحرف والصناعات التقليدية التابعة لوزارة الصناعة والتجارة التونسية محمد ناصر الدين الخضراوي لـ«الشرق الأوسط»: «أنا المسؤول عن قطاع الحرفيين، من حيث المتابعة، وحل مشكلاته سواء المتعلقة بالقطاع أو المشكلات الإدارية، وذلك من أجل النهوض بالصناعات التقليدية». وأكد على أن الصناعات التقليدية منتشرة في أنحاء كثيرة من تونس وتعد القيروان عاصمتها. ويعلل ذلك بالقول «في القيروان أكبر عدد من البطاقات المهنية المتعلقة بصناعة الذهب، ويبلغ عددها 35 ألف بطاقة».

وقد تأثرت صناعة الذهب في تونس بالحضارات التي توالت عليها، بيد أن الحضارة الإسلامية هي التي طبعت تونس بطابعها منذ القرن السابع الميلادي، فلم يبق من الحضارات السابقة سوى أطلال، ومن الاحتلال الفرنسي سوى بعض النتوءات اللفظية والسلوكية الناتجة عن تصورات ثقافة الاحتلال. المصوغ المعد للباس تأثر بالحضارات التي توالت على تونس، وقد عرفت أشكال المصوغ (الحلي) منذ العهد الإسلامي صورة الهلال والنجمة، لكن ذلك الطابع عرف بعض التغييرات، ومن بين الذين أثروا في أشكال المصوغ (الحلي) نجد الفاطميين الذين وضعوا وردة مكان النجمة وسط الهلال، وبني هلال الذين غزو تونس، وكذلك العثمانيون. وتابع «كانت هناك محاولات يهودية في عهد الاحتلال الفرنسي، والسنوات الأولى من (الاستقلال) لإعطاء الحلي صبغة يهودية بطبع النجمة السداسية عليه لكن ذلك لم يدم طويلا».

لم يكن الذهب وحده سيد الموقف، بل كانت الفضة التي امتزجت مع الذهب في الكثير من قطع الحلي، سواء الخاص بسكان الأرياف، أو المستعمل داخل المدن، فقد تمايز الريف عن المدينة لاختلاف طرق الحياة، ولا سيما اللباس التقليدي. ويشير الخضراوي إلى أنه «كان هناك الكثير من الفضيات.. ومن تقاليد الزفاف في تونس شراء العريس قطعا من الذهب للعروس (ولا يدخل ذلك في شرط المهر) ويوضع الذهب في صندوق مغلف بالفضة ومزركش ومطرز بها، ومن الداخل مبطن بقماش الحرير، ولا تقف مهمة الفضة عند تغليف صناديق الذهب المهداة للعروس فحسب، بل يكون ضمن الحلي (من الحلي الخاص بالعروس قبقاب من الفضة أو مغلف بالفضة، وكذلك المرآة تكون مغلفة بالفضة، وسطل الحمام البخاري المعروف لدى بعض الدول العربية بالحمام التركي يكون أيضا من الفضة)، إضافة للمشط ومساكات الشعر جميعها تكون من الفضة، أما السلسلة الذهبية فيتوسطها هلال ونجمة مرصعان بالماس (الأحجار الكريمة) وهو موجود منذ عهد الدولة الأغلبية.. وعندما جاء الفاطميون غيروا الهلال والنجمة وعوضوهما بزمردة خضراء».

في ذلك الحين كان العلم القيرواني يحتوي على الأبيض والأخضر، لكن هذا الجمع بين اللونين أصبح رمزا لفريق كرة القدم بالقيروان، والكثير من الناس لا يعرفون رمزيته الدينية.

وعندما قدم العرب المسلمون إلى المغرب الكبير، وجدوا صناعة الذهب لدى القبائل البربرية في أوج قوتها فقد كان البربر يحفلون كثيرا بالذهب (كانت المرأة الواحدة تحمل ما يزيد على الكيلو غرام من الذهب للزينة، وكانوا يصنعون الذهب باستخدام المهارات اليدوية). ولم تحدث ضغائن بين العرب والبربر، بل حصل وفاق ووئام ودخلت القبائل البربرية في الإسلام أفواجا، بل واصلت مسيرة الفتح بقيادة طارق بن زياد (البربري).

كان كل شيء ينظر إليه بمنظار العقيدة، وعندما دخلت القبائل البربرية في الإسلام غيرت من أشكال حليها، أو بالأحرى الرموز التي كانت تنقش على قطع الحلي، وحولتها إلى رموز إسلامية. لكن هناك أشياء لم يتم تغييرها وهي الرموز التي تشير إلى البيئة التي تتحدر منها المرأة، فالمناطق الزراعية كانت تضع رسوما تشير إلى السنابل وقطعان الماشية، وهذه المناطق تتمايز فيما بينها حسب ما يغلب عليها من إنتاج زراعي فجهة نابل (الشمال الشرقي) تضع نقوشا للحمضيات (البرتقال والليمون) بدلا من السنابل في الوسط أو الزيتون في الساحل والنخيل في الجنوب. وبالتالي كل قطعة حلي تحكي قصة، وهي بمثابة بطاقة هوية لحاملتها.

قصص كثيرة عن الخمسة أو (الخميسة) ومنها أنها تشير إلى أعمدة الإسلام الخمسة، الشهادتين، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج. وهناك من يقول إنها ترمز للرسول والخلفاء الأربعة، كما تشير إلى فضيلة العمل والكسب بكد اليمين من خلال اتخاذ (راحة اليد) حليا تتزين به النساء رمز الخصب والنماء والسمعة والشرف. ربما ترمز إلى ذلك كله فقد تعرضت هذه الرموز لمحاولات الطمس في القديم وفي الوقت الراهن. وفي كل الأحوال ترمز «لأشكال من العقيدة وللموروث من حب العمل والإشادة به واليد هي الرمز وهي أبلغ من الأدوات التي رمزت بها بعض الآيديولوجيات لقيمة العمل والعمال فتلك الأدوات من صنع اليدين». أعمدة الإسلام الخمسة، وأصابع اليدين الخمسة أحدثت إشكالا لدى أتباع ديانات أخرى «يضطرون لضم الخنصر والبنصر للتدليل على عقائدهم بينما يرفعها المسلم يده بأصابعها الخمسة دون تحريف في خلق الله وقد بدأ بعض المسلمين بتقليدهم برفع إصبع الشهادة والشهادة عمود من الأعمدة وليست العقيدة كلها».

ومن التقاليد التي يرويها الخضراوي لـ«الشرق الأوسط» أن «العروس تهدى لها خمسة (خميسة) في أول صباح بعد ليلة الزفاف، وعندما يولد طفل تعلق له خمسة، وعندما يختن ذكر تعلق له خمسة».

ومن الحلي، الخلال، وهو قطعة من الذهب أو الفضة تمسك به المرأة الريفية أطراف ملابسها المكونة من قطعة قماش تلتحف بها بطريقة غاية في الإتقان وتسير بها في الشارع دون أي مشكلات تذكر، وتمثل تنورة وقميص ملتصقين ومشدودين بحزام من الخيوط في الوسط وبالخلال عند مستوى الصدر. ويسمى هذا اللباس في تونس، فوطة، ومليا، حسب المناطق. ومن الحلي المقوس أو المقياس أو المقواس أو الجليطة وتختلف قليلا عن المقوس باللهجة المحلية، وهو سوار من الذهب أو الفضة يوضع في اليد، والخلخال ويوضع في الأرجل، ومنه البربري والعربي والأول أكثر وزنا من الثاني وكان يعيق حركة المرأة في السابق. والسلاسل بأشكالها المختلفة سواء منها ما يوضع في الرقبة أو يربط بين قطعتي الخلال على مستوى صدر المرأة الريفية. والزوج (الزوز باللهجة التونسية) والونيس، والأخراس، والبلوطة، وهي أسماء لقطع حلي توضع في الأذن.

من الأمور التي ذكرها خبير المصوغ التونسي أن الناس في السابق كانوا يشترون البضائع ببضائع أخرى وليس بالمال، كأن يشترى القمح بالذهب، أو القمح بالفول والحنطة وغير ذلك. كما لم ينف التأثير العثماني على صناعة الحلي في تونس والخلط بين الأحجار الكريمة (الديامونت باللهجة التونسية وهي مأخوذة بدورها عن الفرنسية ديامون) والذهب والفضة.

من المفارقات أن تخلو القيروان إبان الاحتلال الفرنسي من حرفيي الذهب العرب، وأن يتربع اليهود على عرش الصناعة، ويمارسون أشكالا فضيعة من الربا ضد الفلاحين الذين يضطرون لرهن ذهبهم من شراء ما تحتاجه زراعتهم ويأخذ اليهود فوائد بنسبة 100 في المائة. وأضاف الخضراوي «كان والدي أول خبير في المعادن يعود من الدراسة في تونس العاصمة، بينما كانت القيروان تعج بالتجار اليهود وقد استحوذوا على الصناعة وعلى أموال الفلاحين بالربا فيعطون لأحدهم ألف دينار على أن يعيدها ألفي دينار بعد عام أو يخسر ذهبه»، ويتابع «والدي من الحاصلين على وسام الاستقلال ومن الذين شاركوا في مؤتمر قصر هلال. وقد سعى لدى سلطة الاستقلال لاسترداد ذهب الفلاحين وقد تم ذلك فورا». وأردف «كان اليهود يشترون الذهب والفضة التي ينقش عليه الهلال والنجمة ويعيدون صناعتها وعليها النجمة السداسية وكان والدي يحارب ذلك لما يمثله من طمس للثقافة الأصيلة وتغول لأقلية وفر لها الأمان والسلام والعيش الكريم فسعت لتغيير ثقافة المجتمع».

عادت الحلي التونسية لأصولها الإسلامية ورموزها الحضارية، واليوم لا تزال الحلي التونسية تحافظ على سمتها المميزة بفضل غيرة الحبيب الخضراوي. لكن هناك خطر المصوغ المصنوع بالآلات والوافد من الخارج. يقول: «الصناعة مهددة بالاندثار، فأقصى ما يمكن أن يحصل عليه الحرفي من قرض في أول مشواره هو مبلغ 4 آلاف دينار( ألفا يورو) وكنت قد اقترحت مبلغ 50 ألف دينار لأن مبلغ 4 آلاف دينار لا يفي بالاحتياجات الدنيا للحرفي».

وعرض الخضراوي أنماطا من قوالب الذهب لصناعة الخواتم والهلال والنجمة وغيرها من قطع الحلي وقطع من الحلي ومن النقود القديمة تعود لعهود خلت.

وحول الإقبال على شراء الحلي أفاد بأن «المصوغ للزينة وللادخار حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية لكل جهة، فإذا كان الإنتاج وفيرا ومجزيا يكون أول ما يشتريه الفلاح هو الحلي». ويشير الرجل إلى تراجع الإنتاج الفلاحي وتغير الكثير من المعطيات بقوله «المصاريف أكثر من المداخيل، ولكن الحلي حافظ على وضعه أثناء الزواج، فالخطوبة تحتاج لخاتم وسلسلة وسوار وجميعها تكلف نحو ألف دينار 500 يورو، لكن الزواج يكلف أكثر ويصل لأكثر من 7 آلاف دينار. ومع ذلك يظل ما يقدم للزوجة في الوقت الحالي أقل بكثير مما كان يجلبه الرجل لزوجته عند الزواج». ويسجل الخضراوي عودة للمصوغ التقليدي، لأن الناس عرفوا قيمة المصوغ الأصيل، على حد قوله.