النجرانيون يدخلون قوائم الثراء بالنخيل المتوارث

الظروف البيئية ووفرة المياه وراء استمرار أهميته جيلا بعد جيل

تحظى النخلة باهتمام مفرط قد يبلغ مرحلة الاهتمام بالأبناء فهي في نظر البعض ثروة يجب الحفاظ عليها وتدخل في جميع شؤون الحياة
TT

معروف في السعودية والخليج، النخلة تساوي لدى البعض الكثير، وتدخل النخلة أيضا في المواريث والاستحقاقات بعد الممات لدى بعض الأسر، في أهمية تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل، وبقيت حتى هذه الآونة.

فما بين ضفتي وادي نجران الشمالية والجنوبية تنتشر مئات مزارع النخيل بشكل متواز على امتداد 40 كيلومترا، وكأن المتجول وسط حديقة غناء. ساعدها في الظهور بهذا الشكل البديع، الظروف البيئية والطبيعية، ووفرة المياه في هذا المكان، بالإضافة إلى حب الناس لإحياء أراضيهم.

ذلك الحب الأزلي القديم الذي ربط الإنسان بالنخلة، تناقله سكان نجران (أقصى جنوب السعودية). فقبل أكثر من 70 عاما، يعي الجميع ويحصي كل نخلة في حدود مزارعهم وأوطانهم، لدرجة أن بات البعض منهم يطلق على كل نخلة اسما معينا، والبعض الآخر يعرفها من تمرها ونواتها أيضا، فقسوة الحياة في ذلك الوقت وضعت للنخلة مكانة عظمى في قلوبهم، وأعطت لمن يمتلك عددا من النخيل لقب «ثري»، بالإضافة إلى التجمع تحت ظلالها لعقد اجتماعات أو لقاءات ما، بل وقد تقع معارك وحروب أيضا بسبب النخلة.

عرفج سالم آل سنان من أهالي نجران وصاحب مزرعة نخيل في المنطقة، روى لـ«الشرق الأوسط» بعضا من الأسماء التي أطلقت على النخيل قديما، البعض من تلك الأسماء عامّي وغريب، مثل «راية، وشقيقة، والصحون، والحمراء، وسكرة، وساتره»، كما هو الحال في الوقت الراهن عند إطلاق الأسماء والألقاب على الإبل، بهدف تسهيل الوصول إليها.

يقول آل سنان «النخلة قد تكون في حدود المزرعة الواحدة أو القرية الصغيرة. وقد يكون هناك أكثر من 100 نخلة، لكل نخلة منها اسم خاص، له معنى ووصف خاص، ففي الغالب ما يرتبط بالنخلة بوصف موقف حصل بالقرب منها، وفي العادة ما تكون المسميات مشتقة من أسماء أشخاص، أو أسماء أشهر السنة، أو وصف يعبر عن جمال مذاق ثمرها، أو عن رداءته أو اسم يعبر عن طولها أو قصرها».

وأشار آل سنان إلى أن صعوبة الحياة وشظف العيش في ذلك الوقت، أدت إلى أن تمتلك 4 أو 5 أسر لنخلة واحدة، إما عن طريق إرث أو شراكة، فيما يوجد كل أفراد الأسرة ذكورا وإناثا لحضور القسمة في موسم الحصاد، الذي يعد كرنفالا يشارك فيه جميع أفراد المجتمع، بفرح وسعادة رسمتها النخلة على وجوههم.

وقال الرجل الذي يرى نفسه خبيرا في هذه الأمور إن «إطلاق اسم شخص على نخلة يسمى نِحلا بكسر النون، أو التسماية، ويعتبر هذا الأمر من العادات القديمة عند أهل نجران، بل ومعظم سكان الجزيرة العربية. فعندما يطلق الرجل على مولوده الذكر اسم رجل، يمتلك عددا من مزارع النخيل، فيقوم هذا الرجل بإعطاء المولود نخلة أو أكثر، كهبة منه نظير تسمية المولود على اسمه، ويتم تسمية النخلة المهداة أيضا باسم المولود، وتكون ملكا له». ويعود عرفج آل سنان بذاكرته عقودا من الزمان للوراء، ويستذكر أن جده وهبه مزرعة، بعد أن سماه والده على اسم جده، وهو ما يعطي إيحاء واضحا جليا بمكانة النخيل في نفوس أهل نجران، بل وأهل الجزيرة العربية بأسرها، ولا يزال الاعتزاز بمزارع النخيل قائما حتى الآن في نفوس الأجداد والآباء والأبناء بذات الوقت.

وتحظى النخلة باهتمام مفرط، قد يبلغ مرحلة الاهتمام بالأبناء لدى البعض، فالنخلة في نظر البعض ثروة يجب الحفاظ عليها، وتدخل في جميع شؤون الحياة، فكان التمر يقدم كجزء من المهر وبنسب متفاوتة من قبيلة إلى أخرى، وكانت دية المقتول (أي العوض مقابل القتل) عبارة عن أرض تحوي عددا من النخيل المثمرة، بل كان التمر وعذق النخل (أي الجذع الذي يحوي التمر) يقدم كمكافأة لحماية الأرض من اللصوص والأعداء. وعادة من يقوم بهذه المهمة القبائل القوية، كما أن جزءا من التمر الرطب يخزن في قرب مصنوعة من الجلد للاستفادة منه عند وقوع الحروب والأزمات، ويعتبر التمر أغلى ما يقدم للضيف ومن الهدايا القيمة.

وكان يستخدم في عملية البيع والشراء بطريقة المقايضة بسلع أخرى، ويستخرج منه الدبس ذو الفائدة الغذائية الكاملة، كما يجمع التمر الرديء مع خبز البر ونوى التمر ويطحن ويقدم للمواشي.

وكان الناس في تلك الآونة يستغلون كل جزء في النخلة، فالخوص يستخدم في إشعال النار وعمل مكانس يدوية، ويصنع منه الدرجة والمطرح والسلال وأغطية الأواني الحجرية والخشبية، ويقطع منه أعواد تستخدم لتنظيف الأسنان بعد الأكل، والليف يستخدم لصناعة الحبال وتنظيف بعض الأواني المنزلية وتنظيف الجسم، والعذق يصنع منه بعض ألعاب للأطفال، كما يستعمل الخوص والسعف والجذوع في بناء البيوت الطينية، التي تنتشر بكثرة في نجران.