مهندس جيولوجي أنقذه الفن من الانضمام لطابور البطالة

الفنان محمد حسانين: لوحاتي قصص قصيرة محكية عبر اللون

TT

حمل الطفل الصغير حقيبته المدرسية فوق ظهره، إنه يومه الأول بالمدرسة الابتدائية الأزهرية. طلب منهم المعلم حفظ سورة من سور القرآن الكريم، وعندما فتح الطفل حسانين المصحف أدهشه شكل الصفحة وجمال الأشكال والحروف، فأمسك بقلمه ورسم الصفحة جميلة تماما كما بالمصحف رغم خطه السيئ، وأصبح ذلك هوايته المفضلة، يتأمل الرسومات فيقوم بنقلها بدقة حتى إنه أدهش من حوله عندما رسم بورتريها لأحد الأشخاص وهو لا يزال طفلا في المرحلة الابتدائية. الغريب أنه كان لا يحب حصص الرسم بالمدرسة، فلم يعلمه أحد كيف يرسم، أو يلون، أو كيف يظلل النور والعتمة. بفطرته استطاع أن يبدع حتى إن بعض الفنانين في بلدته بمحافظة المنصورة بدلتا مصر قالوا له إنك وصلت لمرحلة في الرسم بالرصاص لم يصل إليها أحد منذ سنوات طويلة.

أبوه الحداد يطلب منه أن يصاحبه في ورشته ليتعلم مهنة الحدادة، لتكون سلاحا في يده ضد قسوة الدنيا، فهو بجوار التعليم يستطيع تعلم هذه الحرفة، خاصة في الإجازة الصيفية. لكن الطفل محمد رضا حسانين تلسع يديه النار ويؤذي عينيه الشرار، فينسحب مبتعدا وهاربا من الحدادة إلى عالم الرسم الممتع، ينظر إليه والده بعمق وهو يعلم موهبة ولده، لكنه يخاف عليه من الأيام فلا شيء مضمون حتى التعليم والشهادة الكبيرة.

رغم هذا الولع بالرسم والفن التشكيلي يهجر محمد هذا العالم نهائيا في المرحلة الإعدادية، ويكتفي في المرحلة الثانوية برسم قصور وفيلات وعمارات، فقد كان يطمح إلى أن يصبح مهندسا معماريا، لكن بسبب حسابات مكتب التنسيق دخل كلية العلوم قسم جيولوجيا، فأحب الكلية ومجال دراسته وعاد أيضا لهوايته القديمة، الرسم.

فور تخرجه مهندسا جيولوجيا، رفض محمد أن ينضم لطابور العاطلين عن العمل، الذي يضم ملايين غيره من الشباب حديثي التخرج أو حتى الذين مضى على تخرجهم سنوات. ذهب بشهادته إلى جميع شركات البترول، لكن وبعد الكثير من المحاولات، حالت الوساطة والمحسوبية دون أن يحصل على عمل يحلم به في مجال تخصصه.

وبحثا عن لقمة عيش كريمة اشتغل محمد عاملا بفرن، ثم في ورشة للحدادة، عالم والده الذي نفر منه وهو صغير، ثم عمل بائعا في محل حقائب أطفال، ثم عاملا في مطعم أسماك. كان يعمل لعشر ساعات في المطعم ويرجع إلى البيت ليرسم بقية الوقت، وينام بعد ذلك ساعات قليلة، كان همه الأساسي توفير نفقات هوايته الأثيرة، الألوان والأدوات غالية الثمن، فقام باستغلال ما تعلمه فابتكر وصنع ألوانه بنفسه بطريقته الخاصة.

فرح محمد حين لفت نظره أحد الأشخاص إلى إمكانية إقامة معرض للوحاته في دار الأوبرا المصرية.. ببراءة طفل حمل لوحاته وذهب، لكن المسؤولة عن المعارض بالدار ماطلته رغم إشادتها بأعماله، وفي النهاية قالت له بطريقة ساخرة «نحن لا نقيم معارض للشباب بل للعواجيز فقط»، وفوجئ محمد بعد ذلك بإقامة معرض لفنانة شابة ثرية من خريجات الجامعة الأميركية.

ورغم ذلك الإحباط، ذهب محمد إلى قطاع الفنون بوزارة الثقافة، متسلحا بحس الفنان الجارف في داخله لينجح في إقناع المسؤولين بإقامة معرض بنقابة الصحافيين، وفي اليوم المنتظر لافتتاح معرضه، لم يحضر أحد من الفنانين وحتى مسؤول القطاع المنوط به افتتاح المعرض. بعد أسبوع قادت الصدفة الإعلامي حمدي قنديل، والكاتبة سكينة فؤاد والسياسي حمدين صباحي ليشاهدوا المعرض وأبدوا إعجابهم الشديد بأعمال محمد، ابن الثانية والعشرين ربيعا. بعدها شارك في ثلاثة معارض جماعية كلها بعد ثورة «25 يناير»، آخرها كان معرضا كبيرا باسم «التحرير»، أقيم في قصر محمد علي.

ويبدو للكثيرين من متابعي لوحات محمد، أنه رسمها بعد الثورة لما تصوره من هم سياسي، وهو ما يبرز في استخدام رموز معينة، أو حتى في إيحاء حركة الأشكال والشخوص، فتبادر بطبيعة الحال إلى الظن بأن الثورة هي السبب، لكنك تندهش عندما يجيبك وتتأكد من كلامه بأن اللوحات السياسية كلها مرسومة قبل الثورة. وعندما تسأله لماذا؟ يجيب بأن هذا هو الواقع الذي نعيشه.. فمثلا هناك لوحة بها شخص مجروح الوجه وحوله أمواس حلاقة كثيرة، ويصف لوحته بأن الحاكم الظالم يصبح الشعب أمواسا في وجهه. لوحة أخرى بها عصفور في قفص وباب القفص مفتوح، لكنه تعود على الحبس والظلم، وهو يشرح اللوحة بقوله العصفور هنا مثل الشعب الذي لا يريد الحرية لأنه تعود على القمع.

طاقة السرد هذه يفسرها محمد بقوله «لوحاتي تبدو كالقصص القصيرة المحكية عبر اللون»، ففي إحداها نلمح نقدا لحالة التعليم، حيث هناك على يمين اللوحة طالب يلقي بكتابه على الأرض ويقرر الاسترخاء باسطا ذراعيه، ثم ينتقل المشهد ليسار اللوحة فيصور هذا الشخص بعدما وصل لمرحلة الشيخوخة وهو حزين على عمره الضائع في التعليم بلا جدوى. وفي لوحة أخرى يجسد مشكلة التلوث، ونشاهد فيها رجلا يخرج من شجرة ويداه مكبلتان بالحديد من أثر تلوث الطبيعة. وفي لوحة نشاهد امرأة تقف خلف القضبان ومن خلفها جثث لأشخاص ملقاة على الأرض، تعبيرا عن حالة الحصار المفروض على بعض الدول، التي تعبر عنها هذه المرأة حينما تتطلع للعالم من خلف سجنها. ويعلق محمد: «المرأة في لوحاتي دائما مهمومة، فهي تارة تنظر إلى السماء وملابسها رثة وتدعو الله أن يحميها من طمع الرجال وعيونهم المفتوحة حولها، وبالفعل تهبط عليها من السماء ملابس في إشارة للستر والحماية». لكن محمد يرى أن خطواته في فضاء الفن التشكيلي لم تكتمل بعد فيقول: «كان بودي أن أدرس الفن التشكيلي بشكل عميق وكبير أو على الأقل يتبناني أحد كبار الفنانين ويعلمني، فأنا أشعر أن هذا المجال كالبحر وأنا لا أزال على شاطئه، لكن عندما كنت أطلب ذلك من أحدهم كانت الردود تأتي مخيبة للآمال».. يشرد للحظة، ثم يكمل بصوت يفيض بالإيجابية: «الحمد الله أني أعمل الآن ومنذ فترة قريبة في مجال أرسم فيه، فأثناء عملي في مطعم الأسماك شاركت في معرض جماعي بمترو الأنفاق بمحطة السادات، فشاهد أحد مهندسي الديكور أعمالي وطلب مني عمل رسومات بطريقة الترومبولوي tromploeil في الفيلات والمساكن الصغيرة لتمنحها هذه الرسومات إيحاء بكبر المساحة، لذلك أنا أمارس الرسم الآن طوال النهار.. وأشعر بحريتي ووجودي بشكل حقيقي».