فيينا تحتفي بـ«ليلة المتاحف الطويلة»

660 متحفا ظلت مفتوحة حتى الواحدة صباحا لتشجيع الناس على زيارتها

TT

بأمسية السبت الماضي، احتفلت العاصمة النمساوية فيينا بليلة المتاحف الطويلة، والطول هنا لكون أن المتاحف تظل أبوابها مشرعة تستقبل الزوار بعد مواعيدها الرسمية، وبالتحديد من الساعة السادسة مساء وحتى الواحدة صباحا.

الاحتفالية حملت الرقم 12، مما يعني نجاح التجربة، بدليل استمرارها عاما بعد عام، ورغم عدم اشتراك كل المتاحف النمساوية لسبب أو آخر، فإن عدد تلك المشاركة بلغ 660 متحفا 100 منها بفيينا وحدها. ترعى الأمسية محطة التلفزيون المملوكة للحكومة «أو آر إف»، بالاشتراك مع مؤسسات أخرى في مقدمتها إدارة المتاحف، وشركة مواصلات فيينا.

بتنسيق بديع وجهد مقدر تقدم هذه الجهات فرصا ثقافية وسياحية لكل من رغب في زيارة متحف أو متحفين أو ثلاثة أو عشرة بسعر 13 يورو فقط للتذكرة، ومجانا للصغار دون 12 سنة، بما في ذلك سعر الترحيل من متحف لآخر بأوتوبيسات ظلت تعمل دون انقطاع مع بسمة من السائق وحلوى كضيافة من مساعده وإجابة سريعة ومفصلة عن أي سؤال يتعلق بالأمسية من مساعدين انتشروا بملابس مميزة في كل المدينة.

ما بين سلاسل متاحف تقليدية عتيقة، وثانية حديثة، وثالثة أقرب للمعارض، ورابعة صغيرة لا تتعدى غرفة واحدة، وخامسة قصور تضم أكثر من مبنى وأكثر من طابق يمسي الاختيار صعبا، لا سيما أن الوقت محدود والمعروضات جد مختلفة ومتنوعة ما بين تلك التي تحكي عن تاريخ أغرب الجرائم، وتاريخ وسائل منع الحمل، وتاريخ ظهور وانقراض الديناصورات، وفن الكاريكاتير، وصناعة الدفايات والغلايات، وظهور وتطور شرب القهوة وسيادتها كثقافة نمساوية، ومتحف للفراش، وآخر لوسائل الدفن وفن صناعة التوابيت، ومجوهرات وقصور أباطرة الهابسبرغ، وصحونهم وملاعقهم وأكوابهم، وأثاثاتهم وأنواع حماماتهم، وبيوت مشاهير الفنانين لا سيما موتزارت وبيتهوفن وسيغموند فرويد، ومتحف للأوبرا ودقائق ما يجري وراء كواليسها، ومتحف للمسرح وأزيائه وإكسسواراته، وآخر للمعدات الموسيقية، والأدوات الطبية، ومتحف الأسنان، والممرضات، ومتحف زووم الأطفال، ومتحف المعلومات للأطفال، وصناديق الحواة، والمتحف اليهودي، ومتحف الكنيسة، ومتحف الإنجيل، والطواقي، والأحذية، والقفازات، والساعات، والطوابع، والمدافع، وأزياء الجيش والقوات النظامية منذ أيام الفرسان والمصارعين إلى تلك التي تحمي من الحروب الكيميائية والجرثومية، ولن نغفل تلك التي تضم أشهر اللوحات والتماثيل، والحضارات الإنسانية من أقصى جبال الإنديز إلى صحراء مالي وحتى التي تسجل وتؤرخ لآخر توصيات مؤتمرات الأمم المتحدة للتنمية المستدامة والتغيير المناخي.

«الشرق الأوسط» ضمن جولتها حاولت التنويع ما بين زخم المتاحف، وكانت نقطة البداية من «متحف الشوكولاته» في المنطقة 23 ورغم بعد المسافة انتقالا من المنطقة الأولى، فإنها كانت زيارة مشوقة لاختلافها.

على عكس التوقعات، لم يقتصر الحضور على أسر مصطحبة أطفالها، بل كانت هناك جموع من الشباب وحتى كبار في السن أبدوا صبرا أثناء الجولة التي تمت على مراحل وتشويق بتقديم المعلومات بمختلف الوسائل من صور وأفلام ومطبوعات للتعريف بمناطق إنتاج الكاكاو من غرب أفريقيا إلى أميركا اللاتينية والكاريبية، وكيفية جني الثمار، وتجفيف البذور بواسطة حرارة الشمس بعد تغطيتها بأوراق من الشجر مما يكسبها اللون البني الغامق، وتطور معدات السحق والتصنيع والتشكيل كحلوى بعضها شوكولاته بيضاء ناصعة البياض.

لطول الصفوف وحتى لا يسأم المصطفون كان هناك عرض حي لطلاء جسد بديع لعارضة اكتفت بقطعة ملابس وحيدة ومن ثم تم سترها، أو بالأصح تغطيتها برسومات من ألوان الشوكولاته بالتدرج من بني غامق إلى بني فاتح إلى أبيض. وبياض الشوكولاته كما علمنا يعود للاكتفاء باستخدام زبد الكاكاو دون إضافة لبذرته. ومعلوم أن زبد الكاكاو يدخل في صناعة كثير من منتجات التجميل بسبب ما يكسبه البشرة من طراوة ونعومة.

يعتبر متحف الشوكولاته جزءا من ممتلكات شركة نمساوية أسرية ظلت تعمل في هذا المجال منذ أجيال، وكغيرها من الشركات لها وصفات وأسرار تتناقلها من جد لأب دون أن تفشيها للآخرين، لكنها ورغم ذلك تفتح مجال جولات وزيارات يومية للدعاية موفرة الكثير من فرص التذوق بوسائل حضارية وصحية، من ذلك الآلات الكهربية تظل تدور على شكل نوافير أو مدرجات مما يحرك الشوكولاته السائلة من أعلاها إلى أدناها تماما كفكرة الشلالات، ولكل نافورة ماسورة.

يوفر هذا المتحف ضمن برنامجه اليومي كمية من المطبوعات والأفلام وجولات كما يقيم برامج خاصة لاستضافة حفلات أعياد الميلاد برسم يبلغ 9 يوروات للطفل الواحد.

كانت النقلة بعد متحف الشوكولاته مختلفة تماما لمتحف «الشعوب» في المنطقة الأولى، الذي استضاف من الساعة والثامنة وحتى العاشرة، فرقة موسيقية إندونيسية قدمت مقاطع حية لمعزوفات وألعاب بمعدات تقليدية صاحبها مطعم لبيع أطعمة شعبية من تايلاند.

قدم متحف الشعوب معدات تقليدية للاستخدامات اليومية من مختلف الحضارات مع تركيز خاص للتنبيه على الآثار السيئة للهجمة الإنسانية الشرسة لقطع الغابات وتعرية التربة وتجريفها مما يزيد من مخاطر التعرية والجفاف والتصحر والتغييرات المناخية.

يقع هذا المتحف في مبنى حكومي شاسع بقلب ميدان هيلدن وسط فيينا، وبينما تمت المحافظة من الخارج على شكله المعماري القديم جرى تحديثه من الداخل فأصبح يضم صالة واسعة من الرخام الأبيض مع ظلال سوداء رفيعة، تستضيف طوال العام عروضا ثقافية تساعد في نقل أوجه من وجوه مختلف الحضارات للنمسا التي تتابعها وضيوفها بشغف شديد مما يوطد سمعة فيينا كعاصمة دولية وواحدة من عواصم منظمة الأمم المتحدة.

وكان هذا المتحف قد استضاف قبل فترة برنامج غير مسبوق عن الفرعون «توت عنخ أمون»، كما سيستضيف معرضا عن الثورة الصينية، وقبل أيام فقط اختتم أسبوعا عن صناعة الملابس في دولة نيجيريا، خصوصا تلك المنسوجات القطنية المعروفة باسم «الليس» التي توفرها مصانع خاصة بإقليم فورالبرغ غرب النمسا ويتم توريدها مباشرة إلى نيجيريا لتشكيلها في أزياء أفريقية معتمدة في مقدمتها «البوبو النيجيري» والجلابيب الرجالية واسعة الأكمام والأحجام بالإضافة لأغطية الرأس والطواقي التي تختلف طرق لبسها نسائيا ورجاليا، كما يختلف شكل وضعها باختلاف القبائل واختلاف المناسبات. ومعلوم أن النيجيريين يحرصون في أعراسهم على الالتزام بأنماط معينة في طريقة اللبس بحيث يكون لوالدة العروس وشقيقاتها والمقربات جدا نوع ولون وطريقة تفصيل (استايل) واحدة تختلف عن لون ونوع ملابس أم الزوج وشقيقاته وأصدقائه.

وكان معرض «الليس النيجيري» قد افتتح بعدد من عروض أزياء لمصممي أزياء نيجيريين من الجيل الجديد والشباب والشابات حضروا خصيصا لإبراز آخر إبداعاتهم.

من متحف الشعوب واصلنا الجولة إلى متحف الفنون التاريخية للحاق سريعا بجولة خصصت للوقوف على أوجه الشبه وانتقال الكثير من الأثر من الحضارة الفرعونية للرومانية والإغريقية، وذلك عن طريق دراسة شكل الحركة والملامح في عدد من التماثيل والمعدات وأدوات الزينة التي يعرضها هذا المتحف الفخم في جناح كامل مخصص لآثار مصرية ورومانية وإغريقية بما في ذلك تماثيل ضخمة وأعمدة شاهقة جميعها كانت ممتلكات شخصية لأباطرة وأمراء من إمبراطورية الهابسبرغ تحولت ملكيتها بسيادة النظام الجمهوري للحكومة النمساوية.

وعقارب الساعة تقترب من منتصف ليل فيينا الذي كان أقرب للنهار بسبب كثافة المارة وحيويتهم، خصوصا والكل مسرع يقلب صفحات الكتيب الخاص بالمتاحف ومواقعها، بينما فضل آخرون الاستعانة بملاحق أصدرتها بعض الصحف تعمدت كثير من المقاهي والمطاعم أن تعمل بدورها طويلا، خصوصا أن الطقس كان ربيعيا صحوا زادته حلاوة فرحة الأطفال بأمسية مفتوحة كانوا من حضورها للاستمتاع والاستفادة.

انتقلت «الشرق الأوسط» لمنطقة «الميوزيم كواتير» التي تشتهر بكونها أكثر المواقع الثقافية حداثة وعصرية في المدينة، إذ تضم عددا من المتاحف والمعارض تتفق جميعها في كونها صالات جديدة البنيان والمعروضات سواء في ذلك اللوحات والأثاثات والأفكار الهندسية للمعمار والتصميم، لكن لشدة الازدحام، لم يتسن لنا سوى فرصة جولة في معرض وحيد يضم قاعة شاسعة لم يكن بها سوى بعض المقاعد والطاولات وسلالم وأكواب تم تصميمها وفق رؤى تحتاج إلى تفكير عميق وتمعن أعمق لعل وعسى يتسنى للمرء أن يفهم الفكرة من ورائها! على عكس هذا الجهد الذهني اختتمت «الشرق الأوسط» جولتها براحة شديدة داخل متحف الالبرتينا بالقرب من مبنى الأوبرا.

في سابق زمانه كان الالبرتينا إبان العهد الإمبراطوري قصرا خاصا تم تحويله بكل محتوياته الثمينة إلى متحف عام. تعود شهرة الالبرتينا لما يمتلكه من عدد ضخم من اللوحات الفنية القيمة بالإضافة إلى مقدرته على استضافة معارض متخصصة كمعرض بعنوان «من مونييه إلى بيكاسو».

خصصت إدارة الالبرتينا طابقا كاملا للاستمتاع فقط بديكور بسيط وراق يركز على جمال غرف القصر من حيث المساحة الشاسعة، والاختلاف في أشكالها المعمارية مع علو السقوف، وقمة الإبداع في إضاءتها بنجف كريستالي، وتنسيق تام بين ألوان الستائر وأقمشة المقاعد مع عدد محدود جدا من قطع الأثاث واللوحات والتماثيل بما يختلف تماما وديكورات الكثير من المنازل والقصور في زماننا هذا.

إلى ذلك، تستضيف الالبرتينا في طابق منفصل معرضا يؤرخ للتصوير الفوتوغرافي كصناعة بعد أن كان هواية يضم صورا ولقطات يعود تاريخ بعضها لعام 1800.