ترانسترومر.. نحافة القصيدة

TT

فعلتها، إذن، الأكاديمية السويدية هذه المرة باختيارها الشاعر السويدي توماس ترانسترومر لجائزة نوبل للآداب هذا العام. لن نسمع هذه المرة ضجيجا، ولا احتجاجا، ولن نقرأ اتهامات بتغليب السياسة على المعايير الأدبية. إنه اختيار جمالي بحت، وإن جاء متأخرا بعض الشيء. فهو مرشح للجائزة منذ سنوات طويلة. لكن هذا لا يعني شيئا، إذا لم نقل إن الجائزة تكرمت به، وتوهجت به، وأخذت لمعانا من ضوء قصيدته. نقرأ لترانسترومر قصائده المترجمة إلى العربية والإنجليزية، فنحس بارتعاشة في جهازنا العصبي، هي ارتعاشة الشعر العابر للغات، كما الموسيقى والحب والضوء. تذكرنا صوره المركزة بما قاله هيغل مرة عن الصورة الناجحة الكامنة وراء خلود القصيدة والشعر. إنها، حسب تعبيره، الصورة المفكرة، التي تجمع بين العقل والعاطفة، وتذيب كليهما في الآخر، فلا نعد نعرف أين الفكرة وأين الصورة. وهل الشعر العظيم شيئا آخر؟ أظن أن بليك هو الذي قال مرة: أعرف الشيء الكثير عن المحيط، لكن ماذا عن المحيط في القطرة؟ شعر ترانسترومر هو المحيط في قطرة. لترانسترومر القدرة العجيبة، قدرة الشعر، إلى تحويل الطبيعة اللانهائية والكون الممتد بلا أبعاد إلى جملة شعرية لا يتجاوز مداها الأسطر القليلة، من دون أن يفقدا خصائصهما الأولى. إنه لا ينتمي لذلك الشعر الذي يوزع قطراته في المحيط، فيضيع ويضيعنا معه. كنت أتساءل دائما مع نفسي: من أين تأتي لترانسترومر، ابن السويد، هذه الحرارة الإنسانية، التي تصيبنا بالحمى، ونحن الغرباء عنه بيئة ومشاعر، وثقافة ولسانا؟ لماذا لا يحصل الشيء نفسه مع شعراء هم الأقرب إلينا بيئة ومشاعر، وثقافة ولسانا؟ وهو سؤال نافل بالطبع، لأنه خارج سر الشعر. في عام 2006، وكان في السادسة والسبعين من عمره، وبعد سبع سنوات من إصابته بجلطة دماغية، ذهبت خصيصا لأراه في أمسية خصصها له المهرجان العالمي للشعر في لندن. جاء من بعيد، وهو يدفع كرسيه المتحرك. ومن اللمحة الأولى، تدرك أنك أمام شاعر توافق منظره الفيزيائي مع جوهر شعره. وجه نحيف رقيق كنحافة قصيدته. لا شيء زائدا هناك. لا حركة في اليدين والساقين، حتى الكلام كان قد فقده، كأنه في فيلم من أفلام انغمان بريغمان، الذي أثر عليه كثيرا، حيث يتحول الصمت الإنساني إلى قيمة كبرى تغذي الروح وتغنيها في زمن الصراخ والضجيج. كان ترانسترومر يبدو على كرسيه متوافقا مع نفسه، كأنه تقطر من كل شيء ليصبح قصيدته:

يجب أن أمضي خارجا - الخضرة كثيفة بالذكريات، إنها تتبعني بتحديقتها.

لا يمكن أن ترى، إنها تمتزج كليا بالخلفية، حرباءات حقيقية.

إنها قريبة جدا بحيث أستطيع سماعها تتنفس على رغم أن زقزقة العصافير هنا تصم الآذان.

شعر ترانسترومر شعر بسيط، كما يبدو. إنه ليس مغرما بالحداثة، وما بعد الحداثة، على الأقل في شعره اللاحق، الذي تسربت إليه نغمة أقرب للصوفية في تأملها الطبيعة والكون كوحدة واحدة. لكنه تأمل خلاق، يقرأ العشب، ويستنطق الطير، ويسائل الضياء والكواكب الصامتة، وأقل نأمة في الطبيعة عن المعنى الإنساني الكبير الكامن وراء كل ذلك:

علينا أن نعيش بحرف عشب وضحكة سرداب الشمس توجد الآن على انخفاض ظلالنا عالقة بعد قليل سيكون كل شيء ظلا.

يعسوبان عالقان ببعض صارا يلمعان.