تونس: أبناء الأرياف يبنون بيوتهم بمساعدة أيد متطوعة مجانية

بعدما كانت هذه الظاهرة مقتصرة على تشييد المساجد

أيد متطوعة تساهم في بناء منزل في الريف التونسي(«الشرق الأوسط»)
TT

بدأت تنتشر في بعض الأرياف التونسية ظواهر حميدة، منها الحملات التشاركية الطوعية لبناء المنازل بعدما كانت هذه الأعمال والنشاطات حكرا على المساجد تقريبا. فهذه الأيام يجتمع الشباب، ولا سيما يومي السبت والأحد من كل أسبوع ومنذ الصباح الباكر، للمشاركة المجانية في بناء منازل المواطنين، الذين غالبا ما يكونون من أبناء الجهة نفسها، وبصفة أخص الأقرباء.

في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الماجري، وهو أحد البنائين «هذه الظاهرة انتقلت من المجال الفلاحي - أي الزراعي - إلى المجال المعماري، فهي لم تكن في الواقع معروفة إلا في القطاع الفلاحي حيث كان ينفر الفلاحون لمساعدة بعضهم بعضا فيمضون يوما في مزرعة أحدهم، ثم ينتقلون في اليوم الموالي إلى مزرعة أخرى بهدف تكثير الأيادي العاملة وإنجاز المطلوب في أسرع وقت ممكن من جهة، وللمساهمة في خلق أجواء تساعد على إنهاء العمل بشكل شامل». وتابع الماجري قائلا «في الغالب كانت بيوت الفلاحين مبنية من الطوب المصنوع من التراب والتبن، في حين غدا من النادر هذه الأيام العثور على منزل من هذا الصنف، وذلك بسبب الحملات الطوعية لبناء منازل من الحجارة أو الطوب (الآجر/ القرميد) المدعوم بقوائم من الإسمنت والحديد (الإسمنت المسلح)».

أكثر من هذا، لا بد من الإشارة إلى أن الفلاحين في الريف التونسي ما عادوا يبنون بيوتا من الحجارة أو الآجر على نمط الأكواخ الطينية السابقة، التي غالبا ما كانت تتكون من غرفة واحدة، أو بضع غرف بمحاذاة بعضها البعض، مع سور له باب رئيسي يفضي إلى ساحة تلك البيوت، أو ما يعرف في منطقة المغرب الكبير وبعض مناطق العالم العربي بـ«الحوش»، بل تراهم اليوم فيللات على الطراز الحديث، وهذا، مع النمط العتيق ما زال قائما في العديد من الأماكن حتى اليوم.

من جانبه، يشير رضا الفطناسي إلى أن «هناك من حول حوشه، المبني على النمط القديم وهو مجموعة بيوت متجاورة متصلة بسور له باب رئيسي، إلى مشروع فلاحي استثماري وذلك بعدما شيد بيتا جديدا بفعل الظاهرة الجديدة وهي البناء التطوعي والتشاركي للمساكن»، ويضيف الفطناسي «وجد كثيرون من الفلاحين أن بيوتهم القديمة صالحة لتربية العجول وحتى الأغنام، إذ تتسع كل غرفة لعجلين للتسمين.

ولذا يربون العجول ثم يبيعونها بعد شهرين أو أكثر، وبعضهم قسم تلك البيوت بين عجول التسمين والأبقار الحلوب، أما صحن البيت المكون من عدة غرف فيربي فيه البعض الأغنام».

ظاهرة البناء التعاوني في الأرياف، بالمناسبة، لم تنتقل من النمط السائد في الحقول فحسب، كما يوضح إبراهيم السبري، بل أيضا «من روح العمل التطوعي لبناء المساجد، إذ تبنى المساجد في الغالب بالمساهمة البدنية، وهي التطوع ليوم أو عدة أيام بالعمل اليدوي سواء كحرفي بناء أو كعامل عادي يناول البنائين الحجارة أو الطوب ويسهم في إعداد الإسمنت وبناء منصات البناء وغير ذلك من الأعمال اليدوية»، ويتابع «قل أن تجد مسجدا قد بني من قبل مقاول. إن جميع المساجد تقريبا شيدت بأيدي متطوعين قدموا من أجل تشييدها الجهد والمال، ولكن في ما يتعلق بمنازل المواطنين فإنه لا يساهَم فيها سوى بالجهد البدني».

عمار زنتور، أحد الذين شيدوا بيتا من خلال تطوع عدد من أبناء جهته بالعمل اليدوي، وهو يتكلم عن تجربته شارحا «استغرق بناء بيتي 5 سنوات لأنه لم يكن لدي المال الكافي لبنائه دفعة واحدة، ولو لم يتطوع شباب المنطقة وكهولها للعمل معي ومد يد المساعدة مجانا لما استطعت أن أكمله». ويتابع «لو اعتبرنا أن عملية البناء المتواصلة ستستغرق شهرا وأن راتب البناء 25 دينارا وراتب عامل البناء 15 دينارا، أي ما مجموعه 35 دينارا في اليوم، فإنني لو اكتفيت ببناء واحد وعامل واحد لمدة شهر لكان علي دفع أكثر من ألف دينار، وكانت القيمة ستزداد طبعا كلما ازداد عدد الأيام».

واليوم يشعر زنتور بالامتنان العميق لأبناء منطقته، وهذا مع أنه شارك بدوره في بناء عدد من مساكن أبناء الجهة. وهو يوضح هنا أنه «على الرغم من أن الأمر ينطوي على شهامة المشاركين، فهو أيضا يأخذ طابع تسديد الدين، ذلك أن التطوع لعملية بناء منزل يكون بمثابة دعوة للمستفيد لكي يساهم في المقابل لاحقا في بناء منزل المتطوع». وحتى في حال كان المتطوع يملك بيتا في الأصل، يشير زنتور إلى أن «عملية البناء لا تنتهي، ويمكن للمتطوع أن يستدعي الآخرين لبناء بيت أخيه أو أخته أو واحد من أقاربه». وبالتالي، في حال لم يلب المدعو الدعوة، فإنه يشعر أنه قصر، متابعا «وهذا الأمر يحدث أحيانا عندما يتعذر على أحدهم المجيء يوما أو يومين، ولكن سداد الدين بالمجهود والمساهمة أصبح عرفا لا يمكن لأحد خرقه أبدا»، قبل أن يستدرك فيقول «هناك الكثير ممن هم ليسوا في حاجة للبناء، لكنهم مع ذلك يساهمون في بناء بيوت الآخرين من دون انتظار رد تلك المساعدة المعتبرة، والحمد لله هؤلاء كثر».

ويذكر طارق الذويبي لـ«الشرق الأوسط» أنه بنى بيتا كلفه 25 ألف دينار تونسي من دون احتساب قيمة الأرض التي بني عليها، لكنه لم يدفع أجورا إلا للبناء، أما العمال فكانوا جميعا من المتطوعين، موضحا «العمال كانوا من الجيران الذين تطوعوا مشكورين في عملية البناء».

وكعادة الكثير من أبناء أرياف تونس، استغرق بناء بيت طارق، وهو عبارة عن فيللا، ثلاث سنوات، وهو يشرح خلفية ما فعله بالقول «استغرق بناء هذا البيت ثلاث سنوات، بشكل متقطع. وكنت كلما جمعت مبلغا من المال اشتريت لوازم البناء، ودعوت الناس لمساعدتي». ويضيف «لم يكن كل الجيران والأهل موجودين في جميع مراحل البناء، فكثيرون منهم له عمل يومي محدد بأوقات معينة، ولذلك كانوا يرتبون أمور إجازاتهم»، كما يؤكد عدد ممن التقتهم «الشرق الأوسط». فالموظفون والطلبة، مثلا، لا يستطيعون المشاركة إلا في الإجازات الأسبوعية، ولا سيما السبت والأحد، أما الفلاحون فهم أكثر اقتناصا للفرص للمشاركة الطوعية من غيرهم في عملية البناء المجاني، لا سيما في الأوقات التي لا يكون فيه زرع أو حصاد أو تجميع أو جني للمحاصيل.