السينما المغربية تتألق بجيلها الجديد

«الشرق الأوسط» في مهرجان «أبوظبي» السينمائي 2

من فيلم «أياد خشنة»
TT

يعكس وجود ستة عشر فيلما مغربيا في الدورة الخامسة من مهرجان «أبوظبي» السينمائي نقطتين مهمتين، واحدة ظاهرة والثانية خفية.

الظاهرة هي أن هناك حركة سينمائية فاعلة ونشطة في السينما المغربية هذا العام أدت إلى وجود هذا العدد من الأفلام المتوافرة في المهرجان (واحد منها فقط قديم يعاد عرضه). مدير البرمجة العربية انتشال التميمي يقول إن المهرجان استحوذ على الأفلام الأكثر أهمية وجودة هذا العام، وهذا ما يمكن توقعه نتيجة أنه لا شيء يمنع ذلك. فالمهرجان الإماراتي يسبق المهرجان القطري (يبدأ في الخامس والعشرين من الشهر الحالي، أي بعد يومين من انتهاء هذا المهرجان)، والمهرجان الإماراتي الآخر (دبي). ومدير البرمجة العربية حرص على زيارة المغرب في وقت سابق لكي يجري عمليات مسح يشاهد فيها الاستعدادات، حتى تلك التي ما زالت قيد العمل، ويضمنها. لكن الواضح أنه شاهد الكثير، ووافق على الكثير، وذلك لم يكن ليتاح لولا نشاط الوضع السينمائي في ذلك البلد.

أما النقطة المتوارية بعض الشيء، فهي أهمية السينمات العربية الواقعة في الشمال الأفريقي بالنسبة لهذا المهرجان وسواه من المهرجانات الخليجية. ففي أساليب عملها، وفي بنائها اللغوي كما في مواضيعها، دائما ما شكلت السينمات القادمة من الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا (حين يكون ذلك متاحا) تحديا جميلا لثلاثة كيانات سينمائية أخرى: اللبنانية والفلسطينية والسورية والأردنية من ناحية، والسينما المصرية من ناحية، والسينما الخليجية من ناحية ثالثة. فكل واحدة من هذه السينمات لديها صفات شمولية تجمعها مهما اختلف أسلوب كل مخرج على حدة. وتلك القادمة من الشمال الأفريقي هي أكثر الأفلام الناطقة بالعربية اختلافا، كون الثقافة التي تستند إليها لترجمة مواضيعها بمفردات سينمائية تختلف عن تلك الكامنة في منطقتي الشرق الأوسط والخليج. لذلك فإن وجود هذه السينما يبدو امتدادا فسيحا للسينما العربية، وغيابها يتبلور كنقص شديد.

ولا يجلب المهرجان إليه أفلاما لا يرغب فيها لكي يملأ الخانة، بل وإذا كان حكمنا قائما على مخرجي هذه الأفلام، فإن ما استطاع تأمينه لهذه الدورة يبدو بالغ الأهمية. فبالأمس، تم عرض «أيد خشنة» لمحمد العسلي، ثاني فيلم روائي طويل له بعد عمله الفاتن الأول «الملائكة لا تطير فوق الدار البيضاء» (2005). محمد العسلي المولود في كازابلانكا مخرج أساسي في السينما المغربية الجديدة، أتى من دراسة، ثم تدريس، السينما.. وفيلماه المذكوران هما نتيجتان متلازمتان في طرح واقعي لمشاكل المدينة.

المخرجة ليلى كيلاني، التي تشترك في المسابقة بفيلمها «على الحافة» (والتي أجرينا معها مقابلة نشرت في «الشرق الأوسط» حين عرض الفيلم في مهرجان «كان» الأخير)، هي مخرجة مغربية شابة تؤسس نفسها سريعا كمعبرة عن طموحات الجيل الجديد.

وهناك من بين المشتركين أيضا المخرج إسماعيل فروخي، بعد فيلمه الجيد «الرحلة الكبيرة» الذي تحدث فيه عن اختلاف الأجيال في رحلة تنطلق بالسيارة من فرنسا قاصدة مكة المكرّمة لأداء فريضة الحج. وها هو يعود في فيلم جديد يتعامل مع الإسلام من زاوية أخرى، وذلك في «رجال أحرار»، مختارا الحديث عن كيف آوى المسلمون اليهود في فرنسا المحتلّة من قِبل النازية في مطلع أربعينات القرن الماضي.

إسماعيل فروخي آت من خلفية الأفلام القصيرة، كذلك فوزي بنسعيدي الذي يطرح على الشاشة هنا فيلمه الجديد «موت للبيع»، وذلك بعد فيلمه الروائي الأول «ألف شهر» والثاني «يا له من عالم بديع».

في شكل من الأشكال، فإن واقع السينما المغربية المميزة كله على شاشة الدورة الحالية.

«أياد خشنة».. عاصفة فوق المدينة

* هناك مشهد في فيلم محمد العسلي الجديد «أياد خشنة» (إنتاج مغربي بالكامل) تتقدم فيه الشخصية الرئيسية في الفيلم مصطفى (محمد البسطاوي) من مدخل منزل وزير سابق، ليجد الوزير المقعد خارج باب المنزل. يتقدم منه ويسأله إذا ما كان يريد الخروج للفسحة، وتبعا للجواب يدفع مصطفى بكرسي الوزير ذي العجلات فوق سلالم الدرج الرخامية ومنها إلى الممشى فالشارع وهو يحادثه. ينتقل المخرج من اللقطات المتوسطة وقد أصبح ممثلوه وسط الشارع المقفر، إلى لقطة عامة من الخلف لتحيط بالمكان ولتمنح الحوار بعض التشبع بالأجواء المقصودة.

مثل هذه الحركة الفيلمية المشغولة بإتقان كثيرة الظهور في فيلم العسلي الروائي الثاني، وهو الذي كان قدم فيلمه الأول قبل خمس سنوات «الملائكة لا تطير فوق الدار البيضاء»، وأولها في مشهد التمهيد حيث بطله الثاني (عبد الصمد مفتاح الخير) في لقطة ثابتة على خلفية المدينة وهي تبدو كما لو كانت تدور من حوله. في كلتا الحالتين، وفي حالات أخرى كثيرة، المدينة هي المفتاح النهائي: شخصياتها المتعبة التي تقود الحكاية الشاسعة في دروبها المختلفة، هي أمامية بالنسبة لمدينة دائما في هذا الفيلم كئيبة، عاصرة، ساحقة وخطرة. وهذا ليس شأنها في هذا الفيلم فقط، بل كان شأنها في فيلم العسلي السابق أيضا، كما سيتبدى بعض قليل.

مصطفى ليس شابا، بل أصبح في الأربعين من عمره. والدته عمياء لكنها تدير شؤون البيت كالمبصرة. وهو لا يزال بلا زواج. عمله مريب، فهو عبارة عن تسلم طلبات من مختلف أصحاب الحاجات والباحثين عن وساطات وقبض مبالغ لقاء توصيلها إلى زوجة ذلك الوزير التي تقدم على تحقيق تلك الطلبات عبر اتصالاتها الخاصة أو حتى بتزوير تلك الوثائق أو الشهادات المطلوبة. مصطفى يقبض من أصحاب الطلبات ويدفع للزوجة المتأففة لقاء حصة بسيطة لكنها كافية لكي تدر عليه مبلغا لا بأس به. مساعده (مفتاح الخير) رجل صامت في معظم الأحيان، يدمن القمار ويتجسس أيضا على مصطفى مبلغا عنه شخصية مريبة تعمل لصالح جهاز بلا اسم.

مصطفى أيضا حلاق. ويحب قص الشعر على موسيقى آلة القانون، فيصحب معه عازفا عجوزا ماهرا إلى معظم من يقص لهم شعره، وكذلك مساعده الذي ينكب على الأظافر بينما يتراقص المقص بين يدي مصطفى، وهو يؤمن هذه الخدمة في المنازل والمكاتب. كما أنه يقع في حب معلمة أطفال في مدرسة في الحي اسمها زاكيا (هدى ريحاني) تمني النفس باللحاق بمن تحب في إسبانيا تخلصا من وضع معيشي صعب. لكي تفعل ذلك، عليها أن تتقدم إلى وكالة تفحص يديها لتتأكد من أن يديها خشنتان مما يعني أنهما مارستا العمل في المزارع أو المصانع حتى تتأهل لمنحها إذن عمل. هذا من بعد أن جلبت الأوراق التي تحتاجها بمساعدة مصطفى. الآن مصطفى في الحب، والمشهد الذي يدفع فيه الوزير السابق فوق كرسيه في الشارع هو أول كاشف حقيقي لما يعايشه مصطفى من حالة عاطفية. هو دائما يتحدث عن صديق له في الحب غير كاشف أنه هو، وسؤاله للوزير «عروس صديقي تحب أن يتجولا في سيارة مكشوفة يوم الزفاف، هل يحقق هذه الأمنية لها؟»، وفي ربع الساعة الأخير، حين يدرك مصطفى أنه ليس بمقدوره استئجار سيارة، يسرق واحدة ليتزوج بها.

ليس «أياد خشنة» هو ذاته فيلم «الملائكة لا تطير فوق الدار البيضاء»، لكن هناك العديد مما يجمعهما. في الأساس كلاهما عن المدينة كحالة اجتماعية ضاغطة. والأكثر هناك مشاهد في فيلمه الأول يحس المرء فيها بالخطر الذي تمثله. مشاهد من نوع قيام الغرسون في أحد المقاهي بالانتقال بين أرصفة الشارع المزدحم متلافيا السيارات السريعة. المشاهد يتوقع أن تصدمه واحدة منها. في هذا الفيلم الخطر الجسدي متمثل في أشخاص يركبون الدراجات النارية ويمرون لجانب وأمام السيارات في سرعة. ينحرفون بينها ما يثير التوقع باصطدام يقع في أي لحظة. إنه تفسير عاكس لعدم إعجاب المخرج بالحياة في المدينة. وصورة أخرى لتلك التي تتراءى منذ المشهد الأول. لا شيء جميلا فيها. وهذا هو مفتاحه للربط بينها وبين الشخصيات التي تعيش فيها فإذا بهم يعيشون، لا فيها فقط، بل تحت وطأتها أيضا.

لكن لجانب تلك المشاهد ذات الكاميرا المسحوبة في بانوراميات جميلة، هناك تلك اللقطات المتكاثرة والقطع المونتاجي الكثيف الذي يحاول عكس لهاث الحياة. لكن النتيجة هي خلق تناقض أسلوبي لا يساعد الفيلم كثيرا.

الحكاية ذات الشخصيات المتعددة تبدو في نصف ساعتها الأول، أو أكثر قليلا، كما لو كانت تبحث عن حبكة، إذ يقضي المخرج الوقت في المتابعة من دون البلورة. ومع أن الرصد يبقى سائدا، فإن الفيلم يخلص بعد ذلك إلى بلورة رسالته واهتمامه وتكوين القصة التي تتدرج من شمولية الشخصيات وأدوارها إلى قصة الحب وقد قربت الفيلم إلى وجه عاطفي جديد. على تناقض مفردات العمل التعبيرية المشار إليها، وتأخر تكوين الحبكة التي تمنح المشاهد معرفة ما الذي يتابعه تحديدا ولماذا، فإن العمل ممتاز في مختلف خاناته: إخراجا وتمثيلا وتصويرا.

هذا الناقد انتبه من البداية إلى أن شروط الصورة في العرض الليلي المفتوح تحت سماء المدينة لم تكن مؤمنة. بعض المشاهد، خصوصا تلك الداخلية في المقهى أو في المدرسة، كانت باهتة، لكن الحق ليس على مدير التصوير جيوفاني باتيستا ماراس، بل إن السبب اختلاف النسب التقنية وشروط العرض بين صالة مقفلة وصالة مفتوحة.