قصر الخديو عباس حلمي في إسطنبول.. قطعة حية من تاريخ مصر

شيده كمنتجع صيفي ودخله مخلوعا من قبل قوات الاحتلال

TT

من بين القصور التاريخية والمعالم السياحية والأثرية الكثيرة القابعة على شريطي البوسفور الأوروبي والآسيوي بتركيا والمبنية على الطراز الأوروبي الصريح، وعلى ربوة عالية من الساحل الآسيوي، يوجد قصر صغير له برج تحوطه الأشجار، وإذا استفسرت عن هذا القصر فسيقول لك الأتراك إنه قصر الخديو المصري، في إشارة إلى قصر الخديو عباس حلمي، آخر خديو عثماني حكم مصر والسودان. ويحمل هذا القصر جزءا من تاريخ الأسرة العلوية في مصر، كما يعكس ومضات مهمة من مفارقات التاريخ التي صادفتها.

يختلف قصر الخديو عباس حلمي الثاني عن معظم القصور الإسطنبولية التي تربك الزائر من شدة فخامتها وبزخها المعماري، فهو وإن كان فخما إلا أن به بساطة تريح الزائر وتشعره بالدفء والحنان، ويمكن أن يكون سبب هذا الشعور رغبة الخديو عباس حلمي نفسه في أن يستعيد دفء بلاده، خاصة في سنوات منفاه، التي قضاها بين جنبات هذا القصر.

وتشير وثائق القصر إلى أن الحكومة التركية اشترته عام 1937، ليكون من ضمن أملاكها، وتم ذلك بناء على رغبة مصطفى كمال أتاتورك (مؤسس الجمهورية التركية) وتم تحويله إلى مطعم راقٍ، لكنه أهمل بعد ذلك لعقود طويلة، إلى أن تم استخدامه من قبل بلدية إسطنبول في عام 1980 كفندق 5 نجوم، لكنه الآن يعد أحد مزارات إسطنبول المتميزة التابعة لبلديتها؛ حيث أقيمت المقاهي والمطاعم العامة بحدائقه الشاسعة واستخدمت قاعاته لتكون مطاعم راقية تقدم أطباق المطبخ التركي الشهير، كما تستخدم شرف القصر المحاطة بالحدائق والنافورات لإقامة الحفلات والأعراس، وكثيرا ما يتم تصوير الأفلام والمسلسلات التركية والعالمية داخل أروقة القصر وحدائقه.

وعلى الرغم من شدة الإقبال على زيارة القصر بشكل يومي من قبل الأتراك والسائحين فإن العناية بالقصر والحدائق لا تتوقف.

القصر صغير نسبيا بالنسبة لباقي القصور، فمساحته تصل إلى نحو 1000 متر مربع فقط، ومحاط بحدائق غناء من الزهور والنباتات النادرة، تعتبر هي الأكبر في إسطنبول، وهي شديدة الشبه بالحدائق في قصر المنتزه بالإسكندرية، حتى القصر نفسه يشعرك بأنه نموذج مصغر من قصر المنتزه، ويرجع السبب إلى أن الذي شيَّد القصر هو المهندس المعماري الإيطالي أنطونيو لاشياك، الذي اشتهرت أعماله الإبداعية في عدة قصور في مصر، مثل قصر الطاهرة بالقاهرة، وقد أشرفت جافيدان هانم، نمساوية الجنسية، آخر زوجات الخديو، على بناء القصر.

كان الخديو عباس حلمي قد كلف لاشياك بأن يبني له قصرا صيفيا في ضاحية شوبكلو بالجزء الآسيوي من إسطنبول، لكنه دخل القصر كخديو مخلوع من قبل الاحتلال الإنجليزي بعد سقوط تبعية مصر للدولة العثمانية. تصميم القصر مستوحى من الفيلات الإيطالية المبنية على طراز عصر النهضة، ويتضمن خصائص وتفاصيل من العمارة العثمانية الكلاسيكية الجديدة.

وعلى الرغم من قرب الصلات بين الخديو والباب العالي، وحفاظه على العلاقات مع الإمبراطورية العثمانية، فإن الناس هناك يروون قصصا عن أن الخديو عاش حياة المنفى في القصر، وأنه كان يقضي وقته في الصلاة، وأن إحدى زوجات الخديو قامت ببناء قصر طبق الأصل منه على ضفاف النيل في مصر.

ويبلغ القصر روعته بباقة الغابات والحدائق التي تحيطه، وتمتد على مساحة 270 فدانا، تخترقها طرق متعرجة منمقة بشكل جميل ومحاطة بالورود والأشجار، وتلاصقها مجاري الأمطار، وأجمل طريق للقصر هو الطريق الرئيسي الذي يطل على البوسفور.

والواجهة الرئيسية للقصر تطل على مضيق البوسفور من ربوة عالية فتعطي للبوسفور مشهدا خياليا، وعلى باب المدخل الرئيسي للقصر يوجد شعار «المملكة المصرية»، وهو موجود أيضا على عدة جدران بالقصر، خاصة فوق المدفئات الموجودة بالقاعات. وشيدت الباحة الرئيسية دائرية الشكل للقصر من الرخام الأبيض، تتوسطها نافورة محاطة بأعمدة طويلة من الغرانيت تصل إلى سقف الدور الأخير من القصر، ونوافذ القصر كلها من الزجاج المعشق، وأجملها على الإطلاق تلك القبة الزجاجية التي تقع في السقف فوق النافورة.

وداخل الباحة الرئيسية للقصر يوجد أيضا مصعد تاريخي متحرك يعمل بقوة البخار ويمكن إغفاله للوهلة الأولى بالنظر داخل الساحة الرئيسية للقصر؛ لأن منظر النافورة المحاطة بالأعمدة يخطف الأبصار من شدة الجمال.

وصالونات القصر المصممة على شكل نصف دائرة لها مخارج على الحدائق الخارجية للقصر، وأحد الصالونات مشيد من الأخشاب ويشبه إلى حد كبير إحدى قاعات القصور الملكية في مصر، ويطل على إحدى الشرف المحاطة بالأشجار، والآخر مشيد من الغرانيت الأبيض ويطل على نافورة متدرجة تخترق الحدائق. وبالدور العلوي توجد غرف النوم التي حولت في ثمانينات القرن الماضي إلى فندق راقٍ، لكن أصبح الدور العلوي الآن مزارا تاريخيا له مواعيد للزيارة، وإن كان الدخول للقصر لا يتطلب تحمل نقود إضافية على تذكرة الدخول، التي هي بالأساس ليست باهظة؛ لأن المكان تابع للحكومة.

وأكثر ما يميز القصر هو البرج المشيد في أعلاه، فهو وإن كان ليس غريبا على أعين المصريين من رؤية أبراج على القصور مثل قصري رأس التين والمنتزه وغيرهما، إلا أن القصر يعتبر غريب الشكل بالمقارنة بالقصور في إسطنبول.

وكل ليلة تعزف الفرق الموسيقية أغاني من التراث التركي داخل مطاعم القصر أو بالحدائق المطلة على البوسفور.