ألمانيا تحول مدنها القديمة إلى مدن بيئية

اختيار بوتروب كأول «مدينة ابتكار» في العالم

العمود الدوار من إنتاج «إيمشر ليبه إنيرجي» ويظهر رئيس الشركة والعمدة وهما يساعدان في نصب أول عمود
TT

تعتبر منطقة الرور (نسبة إلى نهر الرور في غرب ألمانيا) أكبر مناطق التعدين والفحم والصناعة في ألمانيا، وتعتبر مدنها المتلاصقة المكتظة بالسكان من أشهر المدن العمالية أيضا. وفي هذه المنطقة، المبتلاة بمناجم الفحم وما يصدر عنها من غازات ضارة، تود السلطات الألمانية تحويل إحدى مدنها إلى مدينة بيئية من الطراز الأول.

يبدو المشروع في البداية مثيلا لمشروع بناء المدينة البيئية «صدر» في الإمارات العربية المتحدة، لكن مشروع الخليج اعتمد على بناء مدينة بيئية من الأساس، في حين أن المشروع الألماني ينوي تحويل مدينة تقليدية من مدن الرور إلى مدينة بيئية 100 في المائة. وأعلنت ولاية الراين الشمالي فيستفاليا عن سباق بين المدن من أجل تحديد المدينة التي ستنال الحظوة البيئية في منطقة الرور التابعة لها. هذا مع ملاحظة أن منطقة الرور، رغم أن دعاة البيئة يعتبرون الفحم من مصادر الطاقة الملوثة للبيئة، لا ترتفع إلى مستوى التلوث الناجم عن استخراج النفط في الإمارات. فالأخيرة تعد خامس أكبر بلد مصدر للنفط في العالم، وينبعث من عمليات الاستخراج والتصفية أكثر من 34 ألف طن (للفرد) من الغازات الضارة بالبيئة والمسببة للاحتباس الحراري (20.6 طن للفرد في الولايات المتحدة).

وإذ خططت الإمارات لمدينة «صدر» سكنا لنحو 15 ألف شخص، وعملا لـ50 ألفا آخرين، تخطط ولاية الراين الشمالي لتحويل مدينة صغيرة ليكون سكانها 50 ألفا لمن يعيشون فيها، إضافة إلى 25 ألفا آخرين للعمل فيها. وربما ستصبح مدينة الرور الصغيرة الرئيفة بالبيئة نموذجا لمدن أكبر في المستقبل حسب رأي وزارة البيئة في الولاية.

وذكر المهندس الفريد أوبرهولتز، مسؤول المشروع، أن المهندسين يخططون لتحوير مدينة سكانها 50 ألفا إلى مدينة عصرية تستخدم كل التقنيات البيئية الحديثة، في إنتاج الطاقة، والتدفئة، والتخلص من النفايات.. إلخ.. وبما يضمن خفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة 50 في المائة. وستحمل المدينة اسم «مدينة الابتكار»، وستكون بمثابة مشروع تجريبي لكل الابتكارات التي تضمن حماية البيئة من ضرر البشر. ويبدأ المشروع في نهاية أكتوبر الحالي، بعد أن تم اختيار بوتروب، من بين 16 مدينة منافسة، كأول مدينة ابتكار في العالم، ليتواصل العمل في نوفمبر (تشرين الثاني) في «التحوير» لمدة 10 سنوات.

هذا يعني أن مدينة بوتروب ستستخدم الطاقة الشمسية والمراوح الهوائية فقط في إنتاج الطاقة الكهربائية، ولن تسمح بالمرور سوى للسيارات الكهربائية والدراجات الهوائية. وستجري إعادة تجديد كل بيت بما يضمن حفظ الطاقة فيها صيفا وشتاء، وبما يؤهلها لاستخدام مياه الأمطار في الزراعة والسقي وفي غسل السيارات وغسل التواليتات. وقال الفريد إن التكاليف ستكون مرتفعة نسبيا (2.4 مليار يورو)، لكنه يأمل في دعم وزارة البيئة التي وعدت بعشرات الملايين من اليوروهات، ومن ثم لاحقا بمردودات نقل التجربة إلى مدن أخرى وبلدان أخرى، وبأمل بيع التقنيات التي ستكتشف في «مدينة الابتكار» إلى العالم.

عدد من الشركات الألمانية الكبرى (60 شركة)، المتخصصة في إنتاج الطاقة وحفظها، ستشارك في مشروع تجديد الطاقة، إلى جانب شركات بناء بيئية ستشارك في إعادة تأهيل منازل المدينة بيئيا، وستضع شركات إنتاج السيارات نحو 500 سيارة وعربة مختلفة، تعمل بالكهرباء، تحت تصرف بلدية المدينة وفي قطاع الخدمات. وسيجري تحوير المدنية بما يضمن تخصيص ثلثيها للسكن والثلث المتبقي للمشاريع التجارية والصناعية.

ضمن المشاريع الصناعية معمل لإنتاج ألواح الطاقة الضوئية، ومعمل لإنتاج المواد الكيماوية، واعتبر أوبرهولتز بناء هاتين الوحدتين «تحديا» أمام منتجي التقنيات الخضراء، لأنه يفترض أن ضررهما على بيئة «مدينة الابتكار» لن يزيد عن ضرر أي بيت سيجري تحويره فيها.

السيارات الكهربائية ستستخدم في النقل والخدمات، ويستطيع المواطن استئجارها عند الحاجة لأن طرق المواصلات داخل المدينة الصغيرة مؤمنة، ويمكن للتلاميذ التنقل على الدراجات الهوائية أو في حافلات كهربائية، وستتوافر الحافلات العامة مجانا أمام المسنين والمتقاعدين وذوي الحاجات الخاصة.

وحسب رأي المهندس أوبرهولتز فمشروع «مدينة الابتكار» هو الأول من نوعه على المستوى العالمي. وهناك مشروع سابق في مدينة مالمو السويدية جرى خلاله اجتثاث حي قديم كامل من أساسه ومن ثم إعادة بنائه بشكل بيئي. وهناك مشاريع هولندية ويابانية لبناء جزر بيئية، إلا أن ولاية الراين الشمالي تحاول نقل أول تجربة، لتحويل أحياء قديمة مبنية إلى أحياء بيئية، إلى العالم.

ومدينة بوتروب التي يسكنها 100 ألف، مع سكان الضواحي، ستكتفي بتحويل المركز (50 ألفا) إلى مدينة خضراء. وسيخضع المشروع 14 ألف بناية سكنية وتجارية إلى إعادة الترميم البيئي، وهو ما يعد بخفض استهلاك المدنية السنوي من الكهرباء من 780 ألف ميغاواط ساعة، إلى مجرد 350 ألفا. وسينخفض في الفترة ذاتها انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون على المستوى السنوي من 271 ألف طن إلى 135 ألف طن.

ويبدو أن اختيار مدينة بوتروب «للتحوير»، من قبل لجنة التحكيم، كان بسبب قدمها كمدينة «بروسية» سابقة. فقدم المدينة سيمنح المشروع أهمية عالمية كبيرة باعتباره أول مشروع للتدخل بيئيا في تصاميم وأبنية مدينة قديمة جدا. وقد ورد أول ذكر لمدينة بوتروب في التاريخ الألماني، واسمها يعني «القرية على حافة الجبل»، عام 1092. وتوسعت عام 1253 حينما كانت تابعة لإمارة كولون (80 كم إلى الجنوب)، لكنها لم تنل لقب مدينة إلا عام 1919. واشتهرت في البداية بصناعة الغزل والنسيج، ثم لاحقا كمنطقة كبيرة للتعدين.

وفي مطلع سبتمبر (أيلول) الحالي بدأت أولى طلائع تحوير بناء المدنية الخضراء القادمة في بوتروب. وهي محاولة للاستفادة من، وتجميع، مختلف التقنيات التي تخدم المشروع. إذ اتفقت مدينة بوتروب مع شركة «لاثيرم»، من مدينة دورتموند القريبة، على تزويد المدينة بالتدفئة والماء الحار بواسطة شاحناتها المتحركة «لاثيرم موبيل». وهي شاحنات من طول 6 أمتار وعرض 2.5 متر قادرة على تزويد مدرسة كاملة أو مستشفى أو مصنع بالطاقة. وتضمن الشركة تقنية لإنتاج الطاقة لا ينبعث منها غاز ثاني أكسيد الكربون.

شركة «إيمشر ليبه إنيرجي» (إيلي) بدأت فعلا في نصب أول أعمدتها الدوارة والملونة التي ستكون مصدرا بيئيا آخر للطاقة في مدينة بوتروب الخضراء. وقام رئيس الشركة كورت رومل وعمدة بوتروب بيرند تيشلر بنصب أول عمود مراوح لإنتاج الطاقة من الرياح في المدنية. وهي تقنية جديدة ومتقدمة لإنتاج الطاقة من الرياح بواسطة أعمدة صغيرة، لا تختلف عن أعمدة الكهرباء التقليدية، لكنها مزودة بخمس ريشات صغيرة تدور أفقيا، أي عكس مراوح الطاقة المعهودة، وتنتج الطاقة الكهربائية الكفيلة بتزويد عدة بيوت بالطاقة. وارتفاع العمود الدوار لا يزيد على 11 مترا، ويعتبر منخفضا بالنسبة للمراوح الضخمة، لكنه مزود بتقنية جديدة لإنتاج الطاقة بشكل صغير. وكانت الشركة قد أنتجت هذه الأعمدة للاستخدام في القرى والبيوت المعزولة، لكن «مدينة الابتكار» قررت الاستفادة منها في البداية ريثما يجري تطويرها أكثر. وينتج العمود الكهرباء بقدرة 600 كيلوواط ساعة في السنة، وهو ما يكفي لتزويد بيتين كاملين بالطاقة على مدار السنة. والأعمدة تشبه المنحوتات الفنية وملونة وينتظر أن تضفي جمالا على شوارع المدينة.

ومن يزور بوتروب مستقبلا لا يتمتع فقط بمشاهدة إجراءات تحويل المدينة القديمة إلى مدينة معاصرة خضراء، لأن بوتروب تجتذب الآلاف سنويا من خلال مدينة ألعابها الشهيرة «هوليوود». وفي هذه المدينة يمكن للإنسان معايشة هوليوود صغيرة، ومشاهدة كيفية إنتاج الأفلام، مع مشاهدات حية لمشاهد تفجيرات وعنف وكاراتيه يشارك فيها أبطال مختلفون يمتدون بين باتمان وسوبرمان.