أيقونة الأغنية الأمازيغية لونيس آيت منقلات: رسالتي الغنائية تتطلب الرقص أيضا

في حديثه الأول لصحيفة عربية

لونيس آيت منقلات
TT

يمكن مقارنة أيت منقلات بالشيخ إمام وفؤاد نجم وبراسنز وبريل ومارسيل خليفة ورونو وجان فيرا ومغنين آخرين أبدعوا هوية قائمة على خصوصية وأصالة المقاربة الإنسانية ونوعية الأداة الفنية الموظفة لإيصال رسالة فكرية آمنوا بها طيلة حياتهم. أيت منقلات الذي صنع الحدث مؤخرا في باريس وفي الجزائر أمام جماهير طالبت ببرمجته في ملاعب ضخمة، أثبت من جديد أنه من رهط الفنانين الكبار بكل المعايير الممكنة. وكما فعل منذ نصف قرن تقريبا، استطاع أن يجمع من جديد كل الفئات الاجتماعية بغض النظر عن مستوياتها الطبقية نتيجة مخاطبته أصحاب قضية مصيرية ووجودية تتعلق بخصوصية هويتهم الثقافية التي قد تصبح مصدر إشكال سياسي يتسبب في تمرد يسيل الدماء والدموع ويعكر صفو البلاد والعباد. وتزداد معايير الخصوصية التي يمثلها حكيم الأغنية الأمازيغية كما تسميه الصحافة الجزائرية عمقا وتوسعا، حينما يجمع أمازيغ وعرب الجزائر على هويته الشخصية والفنية الفريدة والجامعة بين شعرية وفلسفية نصه الغنائي، وكيفية دفاعه عن هويته الثقافية دون الدخول في صراع مباشر مع سلطة ترددت طويلا في الاعتراف بها كما فعل رفيق دربه معطوب لوناس الذي ما زال اغتياله مصدر جدل وغموض في الأوساط الثقافية والسياسية. ويكبر الحكيم في عيون محبيه أكثر بسبب تواضعه الخرافي وكاريزمته ووعيه بهامش وأسلوب النضال من أجل حقوق مهضومة تحتاج تعبئة محسوبة وذكية، وتفضيله العيش في أعالي قريته إيغيل بوعماس مناجيا ومعانقا جبال جرجرة الشماء. وإذا كانت المدينة في نظر معظم الفنانين ضرورة عملية لا بد منها، فإن لونيس لم يتمكن من مغادرة بيت الحنين الأزلي الناطق بتراث لا ينضب، وبقي وفيا يعيش وسط الفلاحين في قريته الوديعة بعيدا عن ضوضاء ونفاق وغبار المدينة الصاخبة وأضواء الصالونات المخملية والفنادق الفخمة التي تتردد عليها نخب السلطة التي يعاديها على طريقته الأصيلة والملغمة، وفضل لونيس خاصية الشعر السهل الممتنع لتمرير رسائل مبطنة بصوت رخيم يطرب الروح. لونيس صاحب الأغنية الشهيرة «أطس أطس ما زال الحال» التي يدعو فيها إلى اليقظة السياسية بكلمات معاكسة، لم يصنف في خانة الفنانين الذين وقعوا في فخ مستنقع التحريض المباشر والفج الذي يسيء لصاحبه ويشوه دوره وهويته التي يريدها فنية خالصة. في حديثه الأول لصحيفة عربية عرف في البداية بنفسه بحكم عدم شهرته في مجتمعات عربية شرقية فقال إن اسمه الحقيقي عبد النبي ولد في السابع عشر من يناير (كانون الثاني) من عام 1950 بقرية إيغيل بوعماس التابعة لبلدية إيبودرارن الملحقة إداريا بدائرة بن يني محافظة تيزي وزو الواقعة شمال الجزائر. وبقي منقلات أشهر فنان قبائلي يدافع عن الهوية الأمازيغية رغم بروز المغني الملتزم الراحل معطوب لوناس لاحقا، صاحب الشهرة التي امتزجت بروحه الاستفزازية التي راح ضحيتها كما يقول البعض إثر «تشويهه» النشيد الوطني الرسمي واستبداله بأغنية معادية للسلطة الأمر الذي ترك أبناء جلدته يعتقدون أنها تقف وراء اغتياله خلافا للرواية الرسمية. وقال أيت منقلات متحدثا عن بلاد القبائل: «إنها كانت دائما معقل مناهضة وتمرد وما زالت في طليعة بؤر المطالبة بحقوق مدنية وثقافية كاملة، وخلافا لما يريده البعض مني، لست رجل سياسة حتى أطالب بهذه الحقوق بطريقة لست قادرا عليها وكنت وما زلت وسأبقى وفيا لأسلوبي الغنائي الذي أحاول من خلاله توعية الجمهور وإسعاده دون الظهور بوجه الوصي والقائد والموجه الذي ينفرد بالحقيقة». منقلات الذي تناولته بالدراسة الباحثة الاجتماعية تسعديت ياسين في كتاب «أيت منقلات يغني» الصادر عن دار لاديكوفرت والذي كتب مقدمته الروائي الشهير الراحل كاتب ياسين، يرفض كل الأوصاف التي تطلق عليه كالشاعر والفيلسوف والمفكر رغم أن نصه الغنائي غني بالاستعارات والرمزية المتقدمة والكناية، الشيء الذي يترك الكثير من محبيه غير قادرين على فك طلاسم الكثير من أغانيه العاطفية والاجتماعية والسياسية على السواء. رغم المكانة غير المسبوقة التي يتمتع بها في أوساط الأمازيغ، قال القروي الزاهد منقلات لـ«الشرق الأوسط»: «أعتبر نفسي أقرب إلى الشعر من الموسيقى رغم أنني ملحن أيضا، ويمثل النص الشعري الذي أغنيه طفولتي التي قضيتها حول الكانون كما يقال في الجزائر باللغة العامية - مدفأة الجمر - وقصص الجدة وأحاسيسي ومحيطي القروي وثقافتي الشفهية الغنية لغويا وأدبيا ومبادئ وكرامة وأنفة أبناء جلدتي وثلوج جبال القبائل، ولهذا أشعر بسعادة كبيرة لا توصف حينما أستعيد ذاكرتي وماضي شبابي ويوميات أناس عاديين تربوا على قيم الأصالة والإقدام والتحرر والاحترام والكرم، وعليه أعتبر إنسانا عاديا لا أختلف في شيء عن الآخرين». مقاربة منقلات القائمة على رسالة النص أساسا لا يراها متناقضة مع إيقاع راقص يثير أجساد الكثير من الشبان والشابات، ويرى أنه وسيلة تستهدف هذه الفئة التي يريد توعيتها بقضايا الهوية والانتماء والعدل والكرامة: «بث الوعي العام في الشباب مطلوب عند فنان ملتزم وظف تراثه من أجل الحق والحرية ويسعدني كثيرا أن أرى شبابا يرقص على أغنيات تفتح ذهنه لاحقا على واقع ما زال في غير مستوى آماله وطموحاته». وعرفت مسيرة أيت منقلات الذي يرفض أن ينعت بالسياسي مرحلتين يجمع عليهما كل الصحافيين والنقاد والباحثين، وتمثلت الأولى في أغاني الحب القصيرة والمبهمة هي الأخرى كتلك التي يتحدث فيها عن حب امرأة ضاعت منه دون أن يعرف السبب، والثانية في الأغاني السياسية والفلسفية الطويلة والمعمقة مثل «أياغو - الضباب - وإيدول عنقا أنروح - الطريق طويل - ونكوني وراكن الدزاير- نحن أبناء الجزائر- وردا على سؤال الرسالة السياسية التي تتضمنها مثل هذه الأغاني كرر من جديد أنه يهدف إلى توعية الناس بواقعهم وليس إلى السعي لإيجاد حلول: «القيام بذلك يشكل مهمة صعبة فما بالك بادعائي حل مشاكل الشعب». لونيس الذي يمارس السياسة شعريا وغنائيا، لم يتردد في الرد على الذين نددوا بسلبيته من أنصار المغني الراحل معطوب الذي دفن في بيته وقال في جملة قصيرة تلخص الكثير من الكلام: «معطوب لم يدخل السجن مثلي وليس من طبعي ومبادئي الدخول في مهاترات ومزايدات مجانية ولم أقع في فخ التقليب الرسمي والسياساوي» ولما سألته «الشرق الأوسط»: «ماذا تقصد ومن؟ رد: لا أعتقد أن معطوب كان مسؤولا عما فعل وأظن أنه راح ضحية الوسط الذي كان يختبئ من ورائه ويحيط به في آن واحد، وكل ما ألصق بي من تهم باطلة لا تشكل هاجسا في حياتي وهي فعل الذين يتلذذون بتجريح وتشويه الآخرين مجانا، والحديث عن مهادنتي السلطة أو التردد في مناهضتها يشكل عبثية لا نظير لها، وكما تعرفون كنت أرد دائما بسلاح الكلمة الشعرية والغناء وفعلت في أغاني (نيقاياون أمقام - نترك لكم المكان) عام 2001 و(ياناد أوميار- الحكيم قال) و(أسندو أنومان»- تجار الريح) عام 2005، في سياق الرد على الأعداء المرضيين وليس على معطوب الذي لم يكن بيني وبينه أي عداء والعكس صحيح». أخيرا ورغم اقتراب ساعة انطلاق الحفل الذي أحياه في باريس تلبية لدعوة الروائي ياسمينة خضراء مدير المركز الثقافي الجزائري بباريس، رد أيت منقلات على سؤالين تعلقا بمدى رضائه عن التحسن الذي عرفته القضية الأمازيغية مقارنة بالمغرب الشقيق ورأيه في تأخر الجزائر عن ركب ربيع الثورات العربية. وقال منقلات بحماسة لافتة: «لقد تقدمنا كثيرا مقارنة بالتهميش الذي عرفناه لعدة عقود، ولكن النقص ما زال واردا في سياق أزمة متفاقمة واليوم علينا عدم الاكتفاء بالمطالب ويجب تسيير وترشيد الإنجازات بشكل عقلاني وعلمي على الصعيدين اللغوي والأكاديمي وما يحز في قلبي ويثير خشيتي عدم ترك المجال لأصحاب الكفاءات للقيام بهذه المهمة، وشخصيا أعتقد أن الكرة لم تعد في ملعب السلطة كما كانت من قبل بوجه كامل وسيصبح من باب التبسيط إلقاء اللوم دائما وأبدا عليها بعد أن حققنا مطالب كثيرة». وعن السؤال الأخير رد جازما أنه «من الخطأ وضع أوضاع الدول العربية في سلة واحدة ولكل بلد خصوصيته، ونحن في الجزائر تقدمنا مقارنة بدول عربية أخرى وهذا لا يعني أن النقائص انتهت ولسنا في حاجة إلى مزيد من التقدم وآثار الثورات العربية الإيجابية لا يمكن إلا أن تفيد الجزائر في رحلتها مع رفع التحديات القائمة».