رحيل أنيس منصور.. فتى الفلسفة المجنَّح

أثرى المكتبة العربية بزاد لا ينفد في شتى دروب المعرفة والعلم والفن

في إحدى رحلاته
TT

ودع أنيس منصور، فتى الفلسفة النزق، أحد دراويش عباس محمود العقاد، الحياة وطوى صباح أمس الكاتب الكبير صفحته الأخيرة في كتاب الوجود بمستشفى الصفا بضاحية المهندسين بالقاهرة، عن عمر يناهز 87 عاما، بعد صراع مع أمراض الشيخوخة، نجم عنه التهاب رئوي شديد وخلل في وظائف الكلى، وآلام في الظهر، أدخل على أثرها المستشفى يوم الجمعة الماضي.

وقال سكرتيره الخاص نبيل عتمان لـ«الشرق الأوسط» إن الكاتب الراحل بدا صباح أول من أمس (الخميس) بشوش الوجه كعادته، بما يشير إلى أن صحته في تحسن، وكان يتحدث مع زائريه، وقد حاولت أن أقصيه عن الكلام، حرصا على صحته؛ لكنه رفض، وهمس في أذني: «دعني أعش لحظاتي الأخيرة بمرح».

وأضاف عتمان: «وحين ذكرته بمقالاته لعموده اليومي بصحيفة (الشرق الأوسط)، ابتسم وهو يقول بصوت خفيض: هؤلاء من قرائي الأعزاء، اذهب إلى البيت هناك مقالات تركتها، خذها».

وقال عتمان إن جنازة الكاتب الراحل ستشيع ظهر اليوم (السبت) بعد الصلاة عليه من مسجد عمر مكرم بوسط القاهرة، وإنه سيدفن في مقابر الأسرة بحي مدينة نصر (شرق القاهرة) مع والدته بناء على وصيته، وسوف تتلقى أسرته العزاء فيه مساء اليوم بجامع عمر مكرم.

ولد أنيس منصور بقرية مدينة شربين بمحافظة الدقهلية (شمال شرقي القاهرة على بعد 120كم) ونشأ نشأة قروية، وسط أسرة تحب الأدب والفن وتأثر بالريف المصري جدا، وأعجب بحياة الغجر الذين كانوا أحيانا يزورون قريته. ومنذ صغره كان أنيس منصور متفوقا في كل ما تعلم، وتعلم من أبيه، الذي كان يعمل مفتش زراعة لدى عائلة يكن باشا، ألا يقرأ إلا ما يمتعه ويحبه، ومع مرور الأيام ترسخت هذا العادة في نفسه، خاصة أن أباه كان شاعرا صوفيا. وكان بين الحين والآخر يستضيف كبار الشعراء والفنانين في البيت آنذاك.

في كُتّاب القرية، عرف أنيس منصور أولى خطواته في دروب العلم والثقافة، فحفظ في سن صغيرة القرآن الكريم وكان له في ذلك الكُتّاب حكايات عديدة، ظلت تتسلل بإيقاعات ورؤى مختلفة في كتاباته، وروى بعضها باستفاضة في كتابه «عاشوا في حياتي».. لكن الدرس المؤثر الذي تركه الكُتّاب في نفسه، هو الجدية والانضباط والاحترام، وأن «من علمني حرفا صرت له عبدا»؛ كما يقول المثل الشعبي الشهير.

ورغم حب أنيس الشديد لأبيه وتأثره برحيله المباغت يوم تخرجه في الجامعة، فإنه تعلق بأمه على نحو خاص كان له التأثير الأكبر والأعمق في حياته، فقد كانت تكسر بحنانها الباذخ إحساسه بالعزلة، وأنه يعيش طفولة تعيسة، خالية من متعة اللعب وشقاوة الأطفال سواء في الحارة، أو في المدرسة، بسبب تفوقه عن أقرانه من الطلبة والتلاميذ، والذي توجه بحصوله على المركز الأول على طلبة الجمهورية في شهادة إتمام الدراسة الثانوية.

يروي أنيس عن هذه الطفولة في أحد أحاديثه الحوارية قائلا: «كان أبي كثير التنقل بحكم عمله من مكان إلى آخر، ولم أستطع فيما كتبت عن طفولتي أن أذكر كلمة «بيتنا»، أو «شارعنا»، فلم يكن لي بيت أو شارع أو أصدقاء، وكان ينطبق علي المثل اليوناني القائل «الحجر المتحرك لا ينبت عليه عشب».

وعن صورته في مرآة والديه يقول: «أبي وأمي كانا يتعاملان معي وكأنني طفلهما الوحيد، والسبب أنني كنت أكثر إخوتي حنانا على أبوي، وأقلهم إثارة للمشاكل، وأكثرهم تفوقا والتصاقا بهما، لأنهما كانا مريضين، وكان مرضهما يثير في نفسي الإشفاق عليهما بشدة، رغم أنني لم أكن الكبير بين إخوتي، وكان ترتيبي التاسع بين أحد عشر ابنا وابنة. ومنذ صغري كانت أمي جزءا من تكويني، ولا تزال، رغم رحيلها عن الدنيا، وكانت نصائحها وعباراتها لي قواعد لا مناقشة فيها حتى بيني وبين نفسي. فما تقوله لي واجب النفاذ حتى لو لم تكن بجواري، وحتى بعدما صرت شابا يجوب الدنيا، كل ذلك إرضاءً لها. وكل ما نصحتني به لم أغيره حتى الآن، رغم معرفتي فيما بعد أن هناك أمورا قالتها لي ثبت خطؤها، منها على سبيل المثال، طلبها مني ألا أتحدث للبنات فلم أفعل، وألا أصاحب من يدخن السجائر وهو ما حدث».

بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة بهذا التفوق، فضل الالتحاق بكلية الآداب جامعة القاهرة وبرغبته الشخصية دخل قسم الفلسفة الذي تفوق فيه، وحصل على ليسانس آداب عام 1947، وعمل مدرسا في القسم ذاته بجامعة عين شمس لفترة.. ثم أغرته أجواء الصحافة وبريقها، فترك العمل بالكلية ودراسات الفلسفة، وتفرغ للكتابة والعمل الصحافي والإبداع الأدبي في شتى صوره.

بدأ أنيس منصور طريقه في عالم الصحافة في مؤسسة «أخبار اليوم»، إحدى أكبر المؤسسات الصحافية المصرية، وتصادف عمله بها مع بداية عمل الشاعر الشهير كامل الشناوي، ثم ما لبث أن تركها وتوجه إلى مؤسسة «الأهرام» في مايو (أيار) عام 1950 حتى عام 1952، ثم سافر أنيس منصور وكامل الشناوي إلى أوروبا، وفي ذلك الوقت قامت ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، وقام أنيس منصور بإرسال أول مواضيعه إلى «أخبار اليوم».. ورغم ترسخ أقدامه في الصحافة، فإنه كان يرى نفسه دائما صحافيا في ثوب أديب، فحسبما يقول أنيس نفسه: «كانت بدايتي في العمل الصحافي في (أخبار اليوم)، وهذا بالضبط ما لا أحب ولا أريد، فأنا أريد أن أكتب أدبا وفلسفة، فأنا لا أحب العمل الصحافي البحت، فأنا أديب كنت وسأظل أعمل في الصحافة».

ظل أنيس يعمل في «أخبار اليوم» حتى تركها عام 1976 ليكون رئيسا لمجلس إدارة «دار المعارف»، ثم أصدر مجلة «الكواكب»، وفي 31 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1976 أسس مجلة «أكتوبر» وتولى رئاسة تحريرها، وهي مجلة عربية أسبوعية، تعنى بشؤون السياسة والاقتصاد والثقافة.

وعلى مدار حياته اتسم أنيس منصور بحاسة موسوعية، حيث تنوعت مشاربه ومعارفه الثقافية، وضربت بعمق وموضوعية في شتى دروب الفلسفة والعلم والفن، ساعده على ذلك شغفه بالاطلاع والقراءة والولع بمعرفة كل ما هو جديد، حتى في عالم الموضة وعلوم الفلك والفضاء. كما ساعده في هذا بشكل جوهري إجادته للكثير من اللغات الأجنبية، كالفرنسية والإيطالية والإنجليزية والألمانية، وقد زود المكتبة العربية بترجمته للعديد من الكتب الأدبية والفلسفية المهمة عن هذه اللغات.

لكن من بين محطات أنيس منصور المتعددة، تظل محطة السياسة، من أكثرها إثارة للجدل والحيوية، فقد عرف في الوسط الثقافي المصري بأنه كاتب وجودي، يعشق الفلسفة الوجودية، فهي تحقق له نوعا من التواؤم مع الحياة، ومع ذاته الفردية الميالة للعزلة والانطواء، كما أنها تحقق له نوعا من الأفق المعرفي والفني لا تجور فيه الذات على الموضوع، وأنه لذلك وبدافع من هذه النزعة الفلسفية احتفظ لنفسه بمسافة وسط، بين اليمين واليسار، سواء في السياسة أو الأدب والفن. فهو كاتب له أسلوبه المتميز الخاص، ينفذ ببساطة ويسر وبأقصر الطرق إلى حقيقة الأشياء وما وراءها، مسلحا بلغة سلسة، شيقة وموحية، مما جعل الكثير من الكتاب يشبهونه بأسلوب الكاتب الروائي الشهير أرنست همنغواي، التلغرافي المختزل.

في محطة السياسة عاصر أنيس منصور فترة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ورغم أن عبد الناصر فصله من عمله كصحافي لمدة عام ونصف العام بسبب مقال؛ فإنه أحبه وانتقده في كتابه «عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا».. يقول أنيس: «عندما عدت للعمل لم أستطع نقده مرة أخرى كما لم أستطع مهاجمته، لم يكن أحد يستطيع أن يفعل ذلك، وحينما قررت طبع كتابي عنه قررت أن أكون موضوعيا في ذكر أخطائه الكثيرة.. وهذا يكفيني».

وعلى العكس من علاقة أنيس الملتبسة بعبد الناصر، فكان مقربا وصديقا شخصيا للرئيس الراحل أنور السادات، وأيده في كل سياساته، ويعرف عنه أنه الصحافي الوحيد في مصر الذي كان لديه خط ساخن للاتصال بإسرائيل.. حتى أنه صرح أكثر من مرة بأنه لا يخجل من موقفه المؤيد للتطبيع، وأن يكون له أصدقاء إسرائيليون، وأنه علينا أن نعيد النظر في علاقتنا مع اليهود، والتعرف عليهم بواسطة الحوار الحي المباشر.. ويرى أنيس في أحد الحوارات الصحافية معه أن من انتقدوا السادات لم يذكروا حسنة واحدة فعلها، «فنصر أكتوبر في نظرهم هزيمة، والانفتاح الاقتصادي هزيمة، والسلام مع إسرائيل لاسترداد الأرض هزيمة، وفي المؤسسات الرسمية نهاجم السادات، ونغضب من إيران لأنها أذاعت فيلم (إعدام فرعون)، ونحن من اغتلناه، والكارثة أن الفيلم مصري، وإنتاجه عربي. في الوقت الذي يذكر فيه التاريخ للسادات أنه نصر مصر والعرب، ولولا قصور في الرؤية لشاركت الدول العربية في عملية السلام التي قادها السادات وأعاد بها الأرض المصرية».

صداقة أنيس والسادات انعكست، على رأيه في الرئيس المصري السابق حسني مبارك، فعلى الرغم من علاقته الوطيدة به؛ فإنه لا يفرط في الإطناب له حيث يصفه بأن معتدل، لا يحب الظلم، وأنه لا ينفصل عن سابقيه من رؤساء مصر، على الرغم من تصريحه في بدايات حكمه بأنه يريد أن يكون ذاته فقط.

وامتدت محطات أنيس منصور إلى الفن والأدب، فكان صديقا حميما للموسيقار محمد عبد الوهاب، وكان الأخير يدعوه بشكل خاص لحضور بروفات أغنياته، ويستشيره في ألحانه، بل في الكثير من أمور الحياة. واحتفظ أنيس منصور أيضا بصداقة متينة مع أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ. وفاق ولعه بالأديب عباس محمود العقاد كل الأدباء والكتاب المصريين في عصره؛ فقد كان يعتبر العقاد أستاذه الأول في الحياة، وفي المكانة نفسها التي يحتفظ بها أنيس لسقراط أستاذه الأول في الفلسفة، هذا على رغم حبه واعتزازه بأدباء وأساتذة كبار، من أمثال طه حسين، وعبد الرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود.

ومن أطرف التداعيات التي لاحقت أنيس منصور في حياته، كلامه عن طقوس ومعادلات شديدة الحساسية والطرافة أحاط بها نفسه تحت دعاوى الحفاظ على صحته ومزاجه الخاص، فمثلا هو إنسان نباتي، لا يأكل اللحوم بكل أنواعها، ولا الأسماك، ولا يشرب الشاي، رغم أنه ضبط متلبسا في مناسبات عديدة، وهو يلتهم شرائح اللحوم بشهية.

ورغم أنه اكتوى بنار الحب وهو في مقتبل حياته، وقع في شرك الحياة الزوجية في سن متقدمة؛ إلا أنه وتحت مظلة هذه الطقوس، آثر أن يكون له موقف مثير من المرأة، فدائما ما كان يصفها بكلمات وعبارات شائكة وملتبسة، جمعها في كتاب بعنوان «قالوا»، أوضح فيه أنه يعتز بالمرأة، كشريك جوهري في الوجود، وأنه يرفض تصنيفها كعدو؛ لكنه فقط يحب الحديث عنها بعبارات كاريكاتيرية ساخرة، تثير العاطفة والخيال، وتجسد ما آل إليه حالها بعد أن أخذت المزيد من حقوقها في المجتمع.

ورغم أن أنيس منصور لم يرزق بأطفال، فإن حديثه عنهم يتصف بأبوة بالغة الرقة والعذوبة، ودائما ما كان يصف نفسه بأنه رجل قنوع بما يحصل عليه، وأنه أبدا لم يكن له طموح مهني أو اجتماعي، ورغم ذلك منحته الأقدار منصب رئيس تحرير عشر مرات، «ورئيس مجلس إدارة» مرة واحدة.

من طقوس أنيس منصور أيضا حرصه على عادات خاصة في الكتابة، فهو ينهض من نومه ليكتب في الرابعة صباحا ولا يكتب نهارا، ومن عاداته في أثناء ذلك أن يكون حافي القدمين مرتديا «البيجاما» وهو يكتب. وكان كثير الشكوى من الأرق وقلة النوم، مؤكدا أنه لا ينام إلا ساعات قليلة، وأنه لا يخشى عدوا في الحياة سوى البرد، والذي يصيبه بوسوسة لا تقل عن وسوسة صديقه الفنان محمد عبد الوهاب.

وعلى مدى مشوار حياته الخصبة حصل أنيس منصور على عدد من الجوائز، منها: جائزة الفارس الذهبي من التلفزيون المصري أربع سنوات متتالية، وجائزة كاتب الأدب العلمي الأول من أكاديمية البحث العلمي، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 1981، وجائزة الإبداع الفكري لدول العالم الثالث عام 1981، وجائزة مبارك (النيل حاليا) في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2001.. كما فاز بلقب الشخصية الفكرية العربية الأولى من مؤسسة السوق العربية في لندن. وحصل على لقب كاتب المقال اليومي الأول في أربعين عاما ماضية.. وأقامت له محافظة المنصورة مسقط رأسه تمثالا في أحد ميادينها.

أثرى أنيس منصور المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات في شتى دروب الأدب والفن والعلم، منها «200 يوم حول العالم» أشهر الكتب العربية رواجا في أدب الرحلات، «وداعا أيها الملل»، «الذين هبطوا من السماء»، «دعوة للابتسام»، «أوراق على شجر»، «ساعات بلا عقارب»، «الوجودية»، «يسقط الحائط الرابع»، «كرسي على الشمال»، «الخالدون مائة أعظمهم محمد»، «العقاد كانت لنا أيام».. ومن أعماله الروائية والقصصية، «من الذي لا يحب فاطمة» وقد تحول إلى مسلسل تلفزيوني ناجح، أيضا «حقنة بنج»، «هي وعشاقها»، «اتنين اتنين»، «القلب أبدا يدق» وله 12 مسرحية مؤلفة بالعربية.. كما ترك في مجال الترجمة العديد من الكتب والأعمال الأدبية التي نقلها إلى العربيّة، بلغة سلسة أثرت النص المترجم، وحافظت على حيويته الفكرية والدلالية. وترجم أكثر من 9 مسرحيات بلغات مختلفة ونحو 5 روايات لكبار الأدباء في العالم، ونحو 12 كتابا لعدد من أشهر الفلاسفة في أوروبا.

لقد عاش أنيس منصور الحياة بإرادة المبدع صاحب الرؤية الفلسفية الراسخة، وتشبث بثوابتها وتقلباتها بروح الكاتب الصحافي المغامر، وبعين طفل ظل يراقبها كشجرة متعددة الألوان والأشكال تنمو وتكبر في داخله كل يوم.