الحج الشامي.. تقاليد شعبية اندثرت مع بداية القرن الماضي

موكبه كان يدور في شوارع دمشق والناس حوله بالآلاف

مشهد من مسلسل تلفزيوني شامي يظهر تقاليد استقبال الحجاج
TT

مع اقتراب موسم الحج للديار المقدسة، لا بد للزائر لمتحف «التقاليد الشعبية» في قصر العظم التاريخي بمدينة دمشق القديمة أن يتوقف لدقائق في إحدى قاعاته التي تحمل عنوان «الحج الشامي» حيث سيشاهد مشهدا كبيرا داخل القاعة يجسد تقاليد الحج الشامي وخاصة المحمل الشريف الذي ظلت تقاليده متواصلة في فترة العصر العثماني وحتى أوائل القرن العشرين المنصرم. تمكن متابعو بعض مسلسلات البيئة الشامية التلفزيونية من مشاهدة هذه التقاليد والمحمل في حلقات من هذه الأعمال واستقبال الحجيج بعد عودتهم من الديار المقدسة سالمين بتقاليد وعادات دمشقية تراثية ما زال البعض من سكان الحارات الدمشقية الشعبية يحافظون عليها، ومنها استقبال الحاج بالعراضة الشامية وبألعاب السيف والترس منذ دخوله حارته وحتى وصوله إلى منزله الذي يكون قد زين بالورود وكتبت على جدرانه وفي لافتات الاستقبال الأحاديث النبوية الشريفة والعبارات المهنئة والمعبرة عن الفرحة بإتمام شعائر الحج ومنها: «حجا مبرورا وسعيا مشكورا».. وغير ذلك.

ولتقاليد الحج الشامي والمحمل الشريف حكاية تاريخية عريقة حيث كانت العاصمة السورية دمشق في العصور الأموية والأيوبية والمملوكية والعثمانية ملتقى الحجاج القادمين من بلدان آسيا الوسطى والمغرب العربي وشمال أفريقيا وقد تعمقت هذه التقاليد في الفترة العثمانية حيث كان يتم استقبالهم في التكايا والخانات وتقديم الخدمات لهم ريثما يحين موعد انطلاقة موكب الحج بقيادة والي دمشق العثماني الذي أطلق عليه لقب «أمير الحج» منذ عام 1120هـ، ومعه المحمل الشريف القادم من الباب العالي في إسطنبول حيث يضم المحمل كسوة الكعبة المشرفة الجديدة والصرة السلطانية التي تحمل الهدايا إلى مكة المكرمة. والمحمل الشريف الذي انتهى به الأمر في متحف قصر العظم للتقاليد الشعبية بدمشق بعد إلغاء تقاليد الحج الشامي مع بداية الحرب العالمية الأولى في عام 1914 يعتبر قطعة تراثية وأثرية قيمة، فهو عبارة عن صندوق هرمي الشكل مغطى بقماش أخضر مكتوب عليه آيات قرآنية كريمة ويحمل على جمل أبيض مزين بأقمشة حريرية مزركشة. وللمحمل تقاليد كانت تتم في مناطق وأسواق دمشق بإشراف الوالي العثماني وهي تتم قبل بدء الحج والانطلاق نحو الديار المقدسة وتبدأ بتقليد الدورة للمحمل حيث يتم إخراج المحمل والسنجق النبوي الشريف في موكب حافل بمرافقة العلماء والأعيان والعسكر وأصحاب الطرق الصوفية والفرق الموسيقية وجمهور غفير من الناس، حيث يسير المحمل يتقدمه «أمير الحج» أو نائب الوالي منطلقا من منطقة السنجقدار قرب ساحة المرجة الشهيرة وسط دمشق متجها نحو أسواق وشوارع الدرويشية والسنانية والبدوي والشاغور وباب كيسان، ومن ثم باب شرقي وحتى شارع النصر حيث قصر العدل ليستقر فيه المحمل والسنجق ويقوم المؤذنون بالإنشاد أمام الجمع الغفير من الناس رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا وعساكر لتقدم لهم الضيافة الكبيرة والقيمة في إيوان السرايا، وبعد الدورة التي تهدف - كما يؤكد المؤرخون والباحثون - إلى الإعلام بالحج، وتحريكا للاشتياق وإرهابا للعدا، كان يتم طوي المحمل وتوضع جميع حليه في صناديق مختومة لترسل مع الهدايا وصدقات السلطان العثماني في الصرة إلى الديار المقدسة لتوزع هناك على الأعيان والعلماء والشرفاء وفقراء الحرمين الشريفين.

بعد الدورة للمحمل الشريف التي تتميز بمظاهر احتفالية في دمشق وقبل خروج قافلة الحج كان يصر الدمشقيون على إضفاء الكثير من التقاليد الجميلة على هذه المظاهر ومنها جلب زيت الحرم النبوي من قرية كفرسوسة حيث كان الزيت يخزن في مستودعات بمنطقة البحصة، فيما يجلب الشمع للحرم النبوي وماء الورد من قرية المزة ومن غوطة دمشق ثم تنصب راية الحج (السنجق) تحت قبة النسر في الجامع الأموي لينطلق الموكب فيما بعد ومعه الحجاج القادمون من البلدان الأخرى حيث يتم التجمع في حي الميدان جنوب دمشق ومن ثم يتجه الموكب مباشرة بعد عيد الفطر نحو قرية القدم نحو الجنوب ومن ثم إلى منطقة مزيريب في حوران قرب مدينة درعا ليغادر بعدها الموكب ومعه الحجاج في رحلة تستغرق أربعة أشهر في الذهاب والإياب، وبالتأكيد فإن للقافلة مستلزمات حمايتها وخدمتها ورجالها التي تأخذ تسميات معروفة، فإضافة إلى «أمير الحج» المسؤول عن القافلة منذ خروجها من منطقة الميدان وحتى مكة المكرمة هناك «أمير الصر» الذي يوصل هدايا وصدقات السلطان العثماني، وهناك «السقاة - السقاباشية» المسؤولين عن تأمين المياه للحجاج في كل مرحلة، و«العكامة» ومهمتهم خدمة الحجاج والحفاظ على أمتعتهم ومساعدتهم في الحل والترحال والعناية بأمور الجمال، وهناك «الجوخدار» وهو حامل الرسائل من الحجاج والمبشر بسلامتهم، و«المزيربتية» وهؤلاء عملهم يقتصر فقط ضمن الأراضي السورية حيث يرافقون القافلة حتى محطتها الكبرى على ضفاف بحيرة مزيريب في منطقة حوران على الحدود مع الأردن ويعودون إلى دمشق بأخبار الحجاج وتوصياتهم إلى أهلهم، وهناك «أمير الجردة» وهي النجدة السريعة وتضم مجموعة من العسكر لمساعدة الحجاج وحمايتهم عند الضرورة في طريق عودتهم من الديار المقدسة، كما تضم أشخاصا يقدمون المأكولات الجاهزة والحلويات للحجاج العائدين.

وعند قرب قدوم الحجيج بالسلامة يسبقهم «الجوخدار» الذي يبشر بمقدم الحجيج فتخرج دمشق عن بكرة أبيها لاستقبالهم وتقام الاحتفالات والعراضة الشامية ورقصات المولوية على مدى عدة أيام وتوزع الحلويات ويقوم الحجيج بتوزيع الهدايا التي جاءوا بها معهم من الديار المقدسة للأصدقاء والأقارب في طقس احتفالي اجتماعي رائع. كما يغادر حجاج البلدان الأخرى والقادمون مع الموكب إلى بلادهم وأهاليهم بعد رحلة زمنية طويلة تستغرق عدة أشهر، حيث كانت هذه الوفود تصل قبل ثلاثة أشهر من انطلاق قافلة الحج الشامي وتأخذ هذه الوفود تسميات حسب المناطق القادمة منها وهي: «الحج الرومي» للقادمين من مناطق ما وراء طوروس، و«الحج العجمي» من بلاد فارس، و«الحج الحلبي» من شمال سوريا، وكانوا يأتون لدمشق ومعهم بضائع فاخرة ونفائس نادرة للاتجار بها فكانت فرصة لهم للبيع والشراء في دمشق التي تتحول إلى سوق تجارية حيوية في فترة وجودهم بها قبل بدء موسم انطلاق قافلة الحج، فكان أفراد «الحج العجمي» يجلبون معهم اللؤلؤ والأحجار الكريمة والأقمشة الحريرية والسجاد، بينما الأتراك يأتون بالشاي والزعفران والتوابل والحناء والكحل.