ثمرة الكاكاو التي بدأت علاجا وانتهت ترفا

بمناسبة الصالون العالمي السابع عشر للشوكولاته في باريس

TT

هل أنت حزين؟ محبط؟ متشائم؟ غير متصالح مع محيطك؟ سارع إذن إلى تناول قطعة من تلك الحلوى الشهيرة البنية اللون، والمغلفة بورق فضي، والكفيلة بأن ترفع معنوياتك وتعيد البهجة إلى روحك. هذا ما ينصح به خبراء التغذية الفرنسيون الذين احتفلوا بالصالون السابع عشر للشوكولاته في باريس، منذ يومين، كحدث وطني يسعد الصغار والكبار، من الطفل الذي يحبو إلى الجدة المقعدة.

الصالون الذي يعتبر أكبر حدث في ميدانه على الصعيد العالمي، أُقيم على أرض المعارض في «بورت دو فيرساي»، وهو يؤدي التحية لمهنة فرنسية عريقة هي مهنة «الحلواني» التي تقترن، غالبا، بمهنة الخباز. لكن بيع الشوكولاته يبقى مهنة في حد ذاته، تتخصص فيها متاجر معروفة، وعلامات تجارية شهيرة تحاول أن تنافس مثيلاتها في الجارتين: بلجيكا وسويسرا. وكما جرت العادة، كان عرض الأزياء المصنوعة من الشوكولاته هو الفعالية الأكثر اجتذابا للجمهور، يوم الافتتاح. وكان لسان حال المشاهد يتساءل: «كيف يصمد فستان الشوكولاته المسكين فوق دفء هذه الأجساد الشابة؟». لقد شارك في العرض أكثر من 60 حرفيا مع مجموعة مختارة من 20 عارضة قدمن أثوابا تغري بالالتهام.

وضع العارضون في متناول الزوار خارطة لـ«فرنسا الشوكولاتية»، تتضمن عناوين 300 متجر تبيع هذه الحلوى في كل المدن والقرى. كما حملت الخارطة إشارات للعمال المهرة الذين نالوا جوائز في مناسبات مختلفة، أو حصلوا على لقب «أفضل صانع ماهر في فرنسا». لكن الغريب أن الجمهور لم يكن مهتما باكتشاف ما يعرف، بل بالتعرف على مذاقات جديدة آتية من البلاد البعيدة. وفي دورة العام الماضي، اكتشف الباريسيون الشوكولاته الهندية الممزوجة بالبهارات اللاذعة، أما هذا العام فقد توقفوا أمام جناح شركة «تورايا» اليابانية للشوكولاته، وهي المجهزة الرسمية للقصر الإمبراطوري، هناك، منذ 500 عام. إن اليابانيين لا يتورعون، في ابتكاراتهم الثورية، عن مزج الشوكولاته بالأرز أو بفول الصويا. وكان بين الحرفيين اليابانيين الكثيرين الموجودين في الصالون ساسومو كوياما، الفائز بلقب «أفضل صانع شوكولاته أجنبي» في إحدى الدورات السابقة للصالون. وعلى الرغم من نجاحهم في اكتشاف مذاقات جديدة، يعترف أبناء اليابان بأن بلادهم عرفت الشوكولاته في حقبة متأخرة، أي بعد 250 سنة من تعرف الغرب الأوروبي عليها.

شارك في الصالون الذي استمر 4 أيام، 400 حلواني من مختلف بلاد العالم، وزاره أكثر من 140 ألف شخص. إن الزيارة هي رحلة ممتعة، وفرصة للتنقل بين الأجنحة، والتوقف أمام كل جناح وتذوق أفخر الأنواع، تقدمها لك مضيفات جميلات؛ حيث لا تكون مرغما على الشراء. لكن البطن عندما تأكل فإن العين تستحيي، ولا بد في نهاية المطاف من خروج الزائر متأبطا شوكولاته.

تصنع هذه الحلوى اللذيذة من بقول نبتة الكاكاو بعد تفتيتها وإذابتها في الماء وتطييبها بالبهارات. وهي قد ظهرت، أول ما ظهرت، لدى قبائل «الآزتيك»، أي في المكسيك حاليا، وكان المحاربون من قبائل المايا (في أميركا الجنوبية) يشربونها لاكتساب القوة قبل انطلاقهم إلى المعارك في العصور القديمة. لهذا كانوا يقدسون «إكشوا» إله الكاكاو والعزة، ومنه جاءت تسميتها. وكان ذلك قبل 4 آلاف سنة من الميلاد. فقد كانت الشوكولاته تستخدم كدواء علاجي في بداية استهلاك الهنود الحمر لها. ثم وصلت حبوب الكاكاو إلى أوروبا على يد الرحالة والمحارب الإسباني كورتيس، بعد عودته من القارة الجديدة عام 1528، وشيئا فشيئا تغلغل مشروب الشوكولاته في القارة «العجوز» كلها، ابتداء من القصور الملكية وحتى أوساط النخبة، فقد كان ثمن الحبوب المرتفع قد جعل منها فوق متناول الطبقات الشعبية. وكانت شركة «الهند الغربية» تستورد الكاكاو عبر ميناء أمستردام، لكن مدينة بريستول البريطانية تحتفظ لنفسها بأسبقية افتتاح أول مصنع ومشرب للشوكولاته عام 1728، وكانت تلك هي بدايات تصنيعها. وظلت الشوكولاته مشروبا حتى رأى أول لوح منها النور عام 1840 بفضل شركة «بيرويرت» البلجيكية.

في إيطاليا، جعلوا منها عجينة مزجوها بالبندق، أما في سويسرا فقد مزجوها بالحليب اعتبارا من عام 1875، وكان ذلك بفضل صناعي يدعى هنري نستله، الذي كان قد توصل، قبل تسع سنوات من ذلك التاريخ، إلى تجفيف الحليب وبيعه مسحوقا ناعما. وتوالت بعد ذلك الأسماء الكبرى في عالم الشوكولاته: بولان، لينت، سوشار، غوديفا، نوهاوس، كوت دور، فوشون، وغيرهم. ومع حلول القرن العشرين، تراجعت أسعار المواد الأولية لهذه الصناعة، الأمر الذي أوصلها إلى أفواه الطبقة المتوسطة، خالصة أو ممزوجة بالفواكه والمكسرات والبسكويت والمثلجات. لكنها لم تصل إلى «الفقراء» إلا بعد الحرب العالمية الثانية. لقد أصبح لوح الشوكولاته الهدية المفضلة التي يحملها العامل إلى أبنائه وهو عائد من نهار شاق، فقد بقيت محصورة في الصغار ولا تصل إلى الكبار إلا في الأعياد والمناسبات السعيدة.

ثم جاءت سنوات الثمانينات من القرن الماضي مع ما حملته من هوس بالرشاقة، وانعكس الأمر على الشوكولاته، باعتبارها من الأطعمة الغنية بالدهون، وبالتالي بالسعرات الحرارية، فلم تعد النساء المهمومات بمظهرهن تقربنها، على الرغم من إطلاق مسابقات لاختيار ملكة جمال الشوكولاته. لقد بدأ الاتجاه إلى الأنواع «السوداء» منها، أي تلك التي تحتوي على نسبة غالبة من الكاكاو، من دون حليب أو زبدة أو مكسرات. كما شهدت الأعوام التالية ظهور الشوكولاته المنتجة من مواد غير معدلة وراثيا «أورغانيك»، والشوكولاته «الحلال» للمسلمين، و«الكوشير» لليهود.

لقد ظلت تحتفظ برقيها وبأنها مأكول المناسبات السعيدة، وراح المستهلك يبحث فيها عن المذاق اللذيذ والفوائد الصحية في آن. وبدأت المجلات النسائية تشجع قارئاتها على تناول قطع محسوبة منها، باعتبارها خير مقاوم للتجاعيد ولأمراض الشرايين وخرف الشيخوخة. وتشير الإحصائيات إلى أن الفرد يتناول منها، على الصعيد العالمي، ما يساوي كيلوغراما واحدا في السنة. وطبعا ترتفع هذه النسبة لتقترب من الكيلوغرامين في أوروبا، لكنها تبقى ضئيلة ولا تتجاوز 130 غراما في السنة للفرد الأفريقي، وأقل من ذلك في شرق آسيا. ويأتي السويسريون في طليعة مستهلكي الشوكولاته، بمعدل 12 كيلوغراما للفرد الواحد في السنة. ويعتبر موسم الأعياد، مثل الفصح والميلاد، هو موسم الذروة في مبيعات الشوكولاته في العالم الغربي.