«مجسمات صوفية» تمتزج بكافة العصور والأساليب بطريقة زخرفية احترافية

معرض «الدراويش» لمي ريشاني: صلابة الفولاذ تتحول إلى جمالية راقية

TT

في عالمها الخاص، في بيتها الذي كان منزل العائلة في منطقة الشويفات في جبل لبنان منذ عام 1920 وكان يخصص الطابق السفلي منه لمعصرة الزيتون، توزع الفنانة اللبنانية مي ريشاني أعمالها بعدما جمعت تحت سقفه محترفا ومعرضا لمنحوتاتها الفولاذية. ريشاني التي احترفت تصميم المجوهرات لسنوات طويلة ها هي اليوم اختارت تطويع موهبتها الفنية لتحويل قساوة الفولاذ إلى جمالية راقية في تحف متنوعة الأشكال تخفي بين حنايا كل واحدة منها «عالما فارغا» بحد ذاته.

في مجموعتها التي أطلقت عليها «الدراويش» واختار مصرف «إف إف آي» أن يفتح أبوابه أمامها لعرض ثلاث قطع منها في مبنى المصرف في وسط بيروت، تطلق ريشاني العنان لمخيلتها الفنية والفكرية مسقطة كل ما يدور في فلك حياتها وقراءاتها وقناعاتها الاجتماعية والثقافية في تصميم هذه القطع عارفة لبدايتها غير مدركة لنهايتها. عندما تسأل ريشاني عن «دراويشها» تجيب بابتسامة صافية «أنا وهذه الدراويش شخص واحد، معها أتماهى مع الكون، أشعر من خلالها بالذوبان الخالص في عالم جردت فيه نفسي من أي عوائق وتعقيدات اجتماعية ومظاهر قد تفسد صفاء روح الإنسان». مجسمات ريشاني التي هي نتيجة ما يمكن تسميته بـ«التصوف الفكري»، تتمرد لتمتزج بكافة العصور والأساليب والأشكال بطريقة زخرفية تزيينية ضمن نسيج الفولاذ نفسه لتجسد في كل قطعة تحفة بحد ذاتها بعيدا عن أي أدوات أو مواد أخرى إلا في ما ندر.

تأبى ريشاني التي يعمل معها حدادون متخصصون، إلا أن تشرف على كل تفصيل في تنفيذ «تصاميمها الحديدية»، «لأنني أعرف أين أبدأ ولا أعرف أين أنتهي». فهي كما دخلت بل غاصت في عالم المجوهرات لسنوات طويلة من التصميم والتنفيذ يدويا في بعض الأحيان، الذي كان كما تؤكد، يعبر عن روحها وجذورها الشرقية التي تجمع بين الحضارات والأديان المختلفة بما فيها الأفكار الاجتماعية التي تختلط فيها هواجس الموت والخوف من المجهول، اختارت كذلك أن تنفرد بخصوصيتها الفنية في «نحتها المتصوف» من خلال مجسماتها الفولاذية برؤية تجريدية مستلهمة من عناصر التراث الشرقي والحضارة الإسلامية. محولة إياها إلى لغة فنية بصرية تسحر العين بتشابهها حينا واختلافها حينا آخر وتأخذها في رحلة ذاتية قد تلتقي مع رحلة ريشاني وقد تفترق عنها، إلا أنها وبلا شك توصل إلى الغاية التي نفذت من أجلها وهي تلك الراحة النفسية والداخلية التي تنبعث في النفس كلما نظرت إليها ورأيت هذا «الدرويش» منتصبا في حديقة المنزل أو تلك الكرة «الثابتة المتحركة» في مجسم آخر يزين إحدى قاعات البيت.

كما الدراويش كذلك القطع الفنية الأخرى، التي اكتفت بها ريشاني لتزين مساحات بيتها وتمتزج مع اللوحات الطبيعية التي تحيط المنزل من الأشجار والمزروعات وتشكل هندسة متميزة بحد ذاتها. كذلك تأخذ المجسمات الأخرى حيزا مهما من عمل ريشاني، فها هو المجسم المتدلي كالثريا من السقف يجمع بين التوازن والضوء والسكون ليملأ المكان بأصوات التموجات الفولاذية بأشكالها الكروية حينا والدائرية أحيانا. هذه الدوائر أو الحركة الدائرية المتناغمة التي تطبع معظم أعمال ريشاني بما فيها من مساحات فارغة تعكس ديمومة لا متناهية في بحث مستمر عن الراحة النفسية والتعايش مع الواقع الذي تحاول ريشاني دائما الوصول إليه، مؤكدة في الوقت عينه «لا أحد يمكنه أن يقول إنه وصل إلى هذه المرحلة النهائية لكن بالتأكيد تبقى المحاولة هي الأهم في إرضاء الذات قدر الإمكان».

حياة ريشاني التي تنقلت خلالها بين سويسرا وأميركا وقبرص قبل أن تعود لتستقر نهائيا في لبنان، مع ما رافقها من أحداث منها المفرح ومنها المأساوي، ساهمت كثيرا في تغيير مسار يومياتها وربما طبيعة حياتها بتفاصيلها الاجتماعية والفكرية والفنية، «واقع جعلني أبحث عن توازني وعن ذاتي لأغوص شرقا في قراءات عدة من الحكماء والفلاسفة في العصور الماضية إلى أن استطعت أن أصل إلى مرحلة صفاء روحية جردت من خلالها نفسي فكريا وحسيا وهذا ما تجسد فعليا في حياتي اليومية وفي علاقاتي مع الناس من حولي وانعكس في ما بعد فنا في كل قطعة من أعمالي التي بدأت بتنفيذها احترافيا منذ 4 أعوام تقريبا». وبعد طول انتظار هاهي اليوم مي ريشاني تفتح باب بيتها لعرض أعمالها في معرض يحمل عنوان «الدراويش» تنظمه المستشارة الفنية ندى بولس الأسعد بعدما تم اختيار 3 مجسمات لعرضها في بنك «إف إف آي» لمدة شهرين، وذلك ضمن خطة ثقافية فنية يعتمدها المصرف منذ سنوات عدة لتشجيع الفنانين اللبنانيين.