«خبر اختطاف».. يختطف إيران

«شيفرة موسوي» السرية.. تتسبب في نفاد رواية ماركيز من الأسواق

المعارض الإيراني مير حسين موسوي
TT

اعتاد الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز أن يكون مشاكسا في كتاباته، سواء على مستوى الأفكار التي يهتم بها أو على مستوى ما يثيره في نفس القارئ من جدل بين الواقعي والخيالي في تلك الكتابات.. لكن خيال ماركيز الجامح - والممتع في آن واحد - لم يصل إلى حد تصور أن رواية كتبها في عام 2004، تصف عمليات خطف في بلده الأم كولومبيا، قد تتطابق مع واقع آخر معيش في الطرف الآخر من العالم.

ومنذ نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، نفدت رواية «خبر اختطاف News of a Kidnapping» (وأصلها بالإسبانية Noticia de un secuestro) لماركيز من أسواق الكتب الإيرانية، وصار البحث عن نسخة منها ضربا من ضروب الخيال.. إذ يصف عدد من أصحاب المكتبات الطلبات - الفجائية - المتزايدة على تلك الرواية الأجنبية تحديدا، بالحدث «الملغز» وغير المسبوق في إيران.

لكن البحث على المواقع الإلكترونية الاجتماعية يلقي بعض الضوء على سر ذلك الاندفاع الجنوني من الشباب الإيراني للحصول على نسخة من الرواية، التي تدور كل أحداثها في كولومبيا.. حيث انتشرت همسات الشباب لبعضهم بقراءة الرواية، تنفيذا لتوصية الزعيم الإيراني المعارض «مير حسين موسوي» لبناته بقراءتها.

وبتتبع أصول الموضوع، يتبين أن موسوي (الموضوع قيد الإقامة الجبرية منذ منتصف فبراير - شباط الماضي) نصح بناته بقراءة الرواية في منتصف شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، حين جمعهم لقاء قصير سمحت لهم به السلطات الإيرانية بعد نحو 7 أشهر من الاحتجاز.

وبما أن زمن اللقاء كان قصيرا للغاية، وأيضا كان بحضور مسؤولين أمنيين إيرانيين لم يكونوا ليسمحوا لموسوي وبناته بتبادل الكثير من المعلومات حول ظروف احتجازه.. مرر موسوي المعلومات بطريقة مشفرة لبناته عبر نصيحته بقراءة رواية ماركيز، قائلا إنها تصف حاله بدقة.

ورغم اختلاف الزمان والمكان والظروف، فإن موسوي وجد في رواية ماركيز تطابقا مذهلا مع ما يحياه من واقع، للدرجة التي دفعته ليقول لبناته: «إذا أردتن أن تعرفن وضعي في الأسر فعليكن بقراءة رواية غابريل غارسيا ماركيز (خبر اختطاف)».

ولا يعلم أحد على وجه الدقة كيف تسربت المعلومة من بنات موسوي إلى الشباب الإيراني المعارض، والذي احتشد أمام المكتبات الإيرانية في صفوف طويلة باحثا عن الرواية، وباحثا في العمق عن وسيلة لرؤية أوضاع الزعيم الإيراني المعارض.. لتتحول الرواية بين ليلة وضحاها إلى الرواية الأكثر مبيعا والأكثر طلبا والأندر وجودا في السوق الإيرانية.

وتتعدد نقاط الاختلاف بين كل من إيران وكولومبيا (التي اشتق اسمها من اسم مكتشف القارتين الأميركيتين كريستوفر كولومبوس)، للحد الذي يمكن أن يقال معه إنه لا توجد نقاط تشابه.. فالدولتان تقعان على نقطتين متقابلتين تقريبا على محور الكرة الأرضية، وبينما تتحدث إيران الفارسية فلغة كولومبيا الرسمية هي الإسبانية، والديانة الرسمية لأغلبية السكان هي الإسلام على المذهب الشيعي في الأولى والمسيحية الكاثوليكية في الثانية، وكذلك نظام الحكم في إيران يتبع ولاية الفقيه، بينما هو الجمهوري الديمقراطي في كولومبيا. وبينما تصارع إيران العالم من أجل إثبات جدارتها وحقوقها في الحصول على الطاقة النووية - أيا كان السبب الحقيقي من وراء ذلك، فإن مشكلة كولومبيا الكبرى هي تجارة المخدرات والعصابات التي تقف وراءها.

إلا أن كل تلك التناقضات لم تمنع حقيقة أن الإنسان واحد، والهم واحد.. وهي حقيقة تمثل جزءا لا بأس به من فلسفة ماركيز العامة في كتاباته، رغم أنه لم يقصد هذه المقارنة بين الأوضاع في كولومبيا وإيران بصورة مباشرة.. إذ إنه نشر الطبعة الأولى لروايته في عام 1996، مستوحيا فيها أحداثا وقعت في عام 1990 بحسب ما يؤكد ماركيز في مقدمة كتابه، بينما تم وضع موسوي قيد الإقامة الجبرية في عام 2011.

ولكن الرواية نفسها لا تخلو من تشابهات حقيقية ونقاط تماس بين ما ترويه وبين واقع موسوي.. إذ إن الشخصية الرئيسية بالرواية «ماروخا» هي صحافية، وسبق لموسوي، الذي كان يوما آخر رئيس وزراء لإيران قبل إلغاء هذا المنصب في عام 1989، أن كان رئيسا لتحرير الجريدة الرسمية للحزب الجمهوري الإسلامي عقب الثورة الإيرانية، واشتهر آنذاك بمقالاته النارية التي يدافع فيها عن الثورة الوليدة ضد مهاجميها من معارضي النظام الإسلامي.

وبينما واجهت بطلة الرواية أزمتها على يد خاطفيها من عصابات المخدرات، وهي أكبر المشكلات الداخلية في كولومبيا، فإن موسوي اصطدم بجدار غير مسموح بتجاوزه في إيران، وهو الاعتراض على إرادة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، حين طعن موسوي ضمن عدد من قيادات المعارضة في نتائج الانتخابات الرئاسية في عام 2009، والتي نجح فيها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في الحصول على فترة رئاسة ثانية، بدعم مباشر من خامنئي، رغم الاعتراضات الشعبية.. مما أدى - بعد سياق متوال من الأحداث - إلى وضعه تحت الإقامة الجبرية منذ فبراير الماضي.

إلى هنا تنتهي الحقائق المتشابهة والمختلفة بين الواقع والرواية، ولكن موسوي أكد على تشابه ظروف إقامته الجبرية - وهي الجزء الذي لا يتوافر حوله أي معلومات لأي شخص - مع ما واجهته بطلة الرواية في واقعة اختطافها.. فلا مناص من محاولة استشفاف ما عاناه موسوي من خلال متابعة الخطوط العريضة للرواية.

وبحسب الرواية فإن ماروخا باتشون اختطفت على يد عصابة «بابلو اسكوبار» (التي تعمل في تجارة المخدرات) من أحد شوارع العاصمة الكولومبية بوغوتا، أثناء توجهها لمنزلها بصحبة شقيقة زوجها بياتريس فيلاماريز.

ويبرز ماركيز في روايته ذعر السيدتين اللتين لا تعلمان سببا واضحا لخطفهما، وكذلك فظاظة الخاطفين الذين يريدون، عبر سلسلة من الاختطافات لمواطنين بارزين وأجانب، الضغط على الحكومة الكولومبية من أجل إلغاء مشروع قانون جديد يقضي بنفي العصابة خارج كولومبيا وتسليمهم إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث يمكن أن يحاكموا هناك، ويتعرضون لعقوبات تصل إلى السجن المؤبد.

وتمر الصفحات، حيث تفضح الرواية الهلع الإنساني الذي يحيط بالمخطوفين من كل جانب، بدءا من اللحظات الأولى لاختطافهما، ثم التنقل بين عدة أماكن للاحتجاز والحجرات القذرة الضيقة عفنة الرائحة التي يتم حجزهم بها، إلى الفزع من رؤيتهم للأسلحة بيد الخاطفين الملثمين على الدوام، إلى الإيذاء النفسي ثم البدني للضحايا والذي وصل إلى مقتل رهينتين من ضمن الرهائن العشرة.

وتصف الرواية كيف أن ماروخا كانت تعاني مع رفاقها في الأسر، حيث لم يكن مسموحا بالحديث بينهم إلا همسا وفي الموضوعات القهرية فقط. وكيف أنهم كانوا مرغمين دوما على الجلوس أو الاستلقاء على حشايا مهلهلة، والدخول للحمام لدقائق قليلة للغاية.. وكان يتوجب على الجميع أن يستأذن حراسا - يراقبونهم على مدار الساعة - من أجل الوقوف أو الجلوس أو التدخين أو حتى مد الأرجل قليلا.. وكيف أن أحد الخاطفين نهر وعنف ماروخا لأنها تسعل وتصدر غطيطا أثناء نومها، مهددا بنسف رأسها لما تسببه من ضجة غير إرادية.

وفي المجمل، فإن ماركيز، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982، هدف في روايته إلى توصيل أكبر قدر ممكن من مشاعر وأحاسيس المحتجزين إلى القراء، ناقلا آلامهم النفسية والبدنية إلى كلمات مشحونة بالحياة إلى قرائه.. ويبدو أن هذا هو السر وراء «شفرة موسوي» التي مررها لبناته، إذ يتشابه إحساس القهر والعجز وقلة الحيلة لدى المحتجز والمخطوف والمقيد الإقامة بغير جرم اقترفه.

ويذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تتقاطع فيها إحدى روايات ماركيز مع مصالح الشأن الداخلي الإيراني بغير إرادته، إذ صادرت السلطات الإيرانية رواية أخرى له بعنوان «ذكريات باغيات احزاني» عام 2007، وذلك لأنها تروي ذكريات رجل في التسعين مع بائعة هوى.. وهو ما رأته السلطات المحلية الإيرانية منافيا للآداب العامة، رغم أن محتوى الرواية إنساني بالمقام الأول.

وتجدر الإشارة إلى أن الشغف بقراءة واقتناء الرواية تجاوز الحدود الإيرانية على ما يبدو، إذ إن أحد أكبر منافذ بيع الكتب البريطانية أصبح لا يكاد يلاحق الطلب عليها، بحسب أحد مديري الفروع بالعاصمة البريطانية لندن. وأوضح الرجل لـ«الشرق الأوسط» أن هناك إقبالا متزايدا للحصول على هذه الرواية بالذات، دون أن يعلم السبب الحقيقي وراء ذلك، مشيرا إلى أن معظم من يسألون عن الرواية أو يطلبون حجز نسخة منها تشير ملامحهم ولكناتهم إلى أنهم من منطقة الشرق الأوسط.