حكاية عام 1993 في حياة أول رئيسة وزراء للدنمارك

هيله شميدت تعيش حياة عادية خارج أسوار البرلمان وليست من رواد الكنيسة ولم تقم حفل زفافها فيها

TT

في عام 1993 غادرت الشابة الدنماركية، هيله تورنينغ شميدت، بلجيكا، بعد أن حصلت على ماجستير في الدراسات السياسية من الجامعة الأوروبية في مدينة بروج الساحلية. وفي بلجيكا أيضا تعرفت على زوجها البريطاني ستيفن كنوك، ابن زعيم حزب العمال البريطاني الذي كاد يصبح رئيسا للوزراء في بداية التسعينات، لو حصل على عدد إضافي قليل من المقاعد النيابية.

وفي نفس العام، انضمت إلى الحزب الاشتراكي الدنماركي، لتبدأ مشوارها الحقيقي في عالم السياسة، وكللته بالنجاح في الانتخابات الأخيرة في بلادها، لتصبح أول سيدة تشغل منصب رئيس الوزراء في الدنمارك، وكان طبيعيا أن يتذكرها زملاء الدراسة والأصدقاء في بلجيكا، وأصدرت الجامعة بيانا للتهنئة والترحيب بشغلها لمنصبها الجديد، كما صارت هيله شميدت مصدر اهتمام الدوائر الإعلامية الأوروبية والعالمية، ومعها بدأت مواقع الإنترنت تسلط الضوء على حياتها السياسية، والخاصة، والعامة. وعلى الرغم من أنها كانت دائما تتفادى الحديث في تصريحاتها حول حياتها الشخصية، فهي حريصة على وضع حدود وضوابط لما ترغب في أن يعرفه الناس عنها، القريبون منها يصفونها على أنها شخصية ضحوكة وذات حس عال، وأنها تفرض احترامها على من حولها، إلا أنها لا تسمح لأي أحد بالاقتراب من حياتها الخاصة، أما عن تدينها فتقول عن نفسها في أحد الكتب إنها قرأت جزءا من الإنجيل وهي في الـ18 من عمرها. إلا أن الأمر لا يتعدى أكثر من ذلك، فهي عضو في الكنيسة العامة ولكنها لم تقم حفل زفافها في الكنيسة، كما أنها ليست من روادها، أي يمكن القول إن مثلها كمثل أغلب الدنماركيين فيما يتعلق بالاعتقاد والتدين.

ويقول عنها موقع أخبار الدنمارك على الإنترنت: «تحاول هيله تورنينغ شميدت طيلة الوقت أن تعيش حياة عادية خارج أسوار البرلمان، على خلاف ما هو معتاد من رؤساء الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فلديها شغف بما يهم الدنماركيين العاديين، فتشاهد التلفاز مع أطفالها، وتحضر الطعام لهم، وتقرأ الروايات، وتسمع الموسيقى، وتقوم بشراء حاجيات المنزل».

ولدت هيله تورننج شميدت في 16 ديسمبر (كانون الأول) 1966 في مركز طبي يقع في منطقة غودوا القريبة من كوبنهاغن، وهي الأخت الصغرى لكل من هنريك وهانه، وقد تقابل والداها (غريته وهولغر تورنينغ شميدت) في جامعة أورهوس عندما كانا يدرسان اللغة الإيطالية، وانتقلا بعدها إلى فيللا في منطقة إيس هوي، الواقعة في نطاق كوبنهاغن الكبرى، ولكن الأمور لم تسر على ما يرام، ووقع الطلاق بين والديها وهي في ربيعها الـ11، وانتقلت هيله للعيش مع والدتها في شقة في المنطقة ذاتها، وقد توفي والدها الذي عمل كمحاضر واقتصادي في شهر فبراير (شباط) 2010، أما والدتها فتقاعدت بعد أن كانت تعمل رئيسة قسم في الجامعة.

باختصار يمكن القول إن هيله نشأت في ظل بيئة دنماركية ليبرالية عادية، ودرست الثانوية العامة في منطقة «إيس هوي» ثم توجهت بعدها إلى جامعة كوبنهاغن لدراسة العلوم السياسية وكذلك في بلجيكا حيث قابلت زوجها هناك، وتمكنت هيله خلال هذه الفترة من تكوين شبكة معارف دولية ما زالت على علاقة بها حتى الآن.

تزوجت هيله تورنينغ شميدت في عام 1996 من ستيفن كينوك البريطاني الجنسية، ولها منه ابنتان، يوهانه وكاميلا، وتسكن هذه العائلة في بيت راق يقع في منطقة أورستبرو. وواجهت هيله مصاعب شتى مع بداية توليها رئاسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي في إقناع الجمهور بأنها قائدة اشتراكية، وذلك لأن مظهرها وملبسها كسيدة من الطبقة الراقية لا يتناسب مع الصورة النمطية التي عرفت عن حزب الاشتراكيين أو حزب العمال، كما يطلقون على أنفسهم، ولذلك تعتبر هيله تورننج نوعا جديدا من الاشتراكيين الديمقراطيين. وانضمت هيله إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي في عام 1993 كأول عضو من عائلتها ينضم إلى هذه الحزب، حيث اعتاد والداها على التصويت لليبراليين، وربما لهذا السبب تأثرت كثيرا ببعض الأفكار الليبرالية التي لم تخش أن تأخذها معها إلى داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وتولت رئاسة الحزب في عام 2005 بعد معركة داخلية ضد فرانك ينسن، وكانت ساعتها لم يمض على وجودها في البرلمان سوى شهور معدودة.

ومرت هيله خلال فترة رئاستها الأولى للحزب بصعوبات كثيرة، فكان لا بد أن تثبت للجميع أنها ديمقراطية اشتراكية كباقي الأعضاء، وذلك بسبب الصورة التي أخذت عنها من ملبسها وبعض الأفكار التي تأثرت بها من تربيتها الليبرالية، وتعرضت للكثير من الانتقادات بسبب بعض أفكارها، كذلك بسبب ما اتهموها به من نقص للخبرة وغياب للرؤية، كذلك تعرضت للكثير من القضايا التي كادت تذهب بمستقبلها السياسي، كقضية الضرائب الخاصة بزوجها، حيث اتهمها الكثيرون بالنفاق وازدواجية المعايير.

كذلك مرت هيله بالكثير من الخلافات السياسية داخل حزبها، ولم يسعفها إلا ثقتها في نفسها، ومن ثم عائلتها، على حد قولها، وكذلك عائلة زوجها ستيفن الذي يعمل في سويسرا وينحدر من عائلة سياسية هو الآخر، فقد شغل أبوه منصب رئيس حزب العمال البريطاني سابقا، ومن الممكن أن يكون قد ساعدها كذلك في بداية مشاورها فيما تعرضت له من مشكلات وخلافات في رئاسة الحزب، وهو ما زادها إصرارا على مواصلة المشوار كما يعتقد بول نيروب، حسبما جاء على الموقع الإلكتروني «أخبار الدنمارك».

وكذلك تعرضت هيله لانتقادات واسعة من قبل الجالية المسلمة، حيث قالت ذات مرة إن صورة الفتيات يرتدين الحجاب تثير غضبها، وذلك لأنها لا ترضى بقهر الفتيات وإجبارهن على ارتداء الحجاب، ولكن الأمور سرعان ما هدأت مرة أخرى، كذلك يعرف عن هيله وحزبها دعمهما لقانون الـ24 سنة الخاص بلم الشمل للأجانب إلا أنها تعارض أغلب القوانين التي وضعتها الحكومة الليبرالية بمساعدة من حزب الشعب الدنماركي.

وفاز ائتلاف اليسار الوسط بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الانتخابات، واضعا بذلك نهاية لحكم ائتلاف اليمين الذي دام 10 سنوات، والذي فرض قيودا على الهجرة تعد هي الأكثر صرامة في أوروبا. ووضعت نتائج الانتخابات، التي بلغت نسبة المشاركة فيها أكثر من 90 في المائة، البلاد على طريق تقوده أول رئيسة وزراء في تاريخ البلاد وأثارت الانتخابات في الدنمارك، التي يبلغ عدد سكانها 5.5 مليون نسمة، قضية طالما كانت محل خلاف وانقسام بين الكثير من الدول الغربية التي تعاني بطء النمو الاقتصادي والعجز الكبير في الميزانية وارتفاع نسبة الديون التي وصلت إلى مستوى غير مسبوق، وهي كيفية المزج المناسب بين الإنفاق الحكومي والسياسات الضريبية لاستعادة الصحة الاقتصادية وتفادي المزيد من الانزلاق باتجاه أزمة مثل تلك التي تعانيها اليونان. وقامت الحملة الانتخابية للحزب الاشتراكي على وعود من هيلي برفع الضرائب بالنسبة للمصارف الدنماركية والمواطنين الأثرياء من أجل الإنفاق على إنشاء مدارس ومستشفيات أفضل، والتوسع في تمويل برامج الرفاهة بمقدار 4 مليارات دولار. واتضحت إشارتها إلى التقشف مع اقتراحها بإضافة 12 دقيقة إلى متوسط يوم العمل في الدنمارك، وأقرت أيضا بالحاجة إلى اتخاذ إجراء بشأن العجز الذي من المحتمل أن يصل إلى 4.6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي عام 2012، وهو أعلى من متوسط العجز الأوروبي.

ووجه الاتحاد الأوروبي التهنئة لشميدت، وصدر بيان عن البرلمان الأوروبي ببروكسل، باسم رئيسه جيرسي بوزيك، هنأ فيه زعيمة الحزب الاشتراكي الدنماركي، المكلفة بتشكيل الحكومة الجديدة في البلاد، بعد فوزها في الانتخابات الأخيرة في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، وجاء في البيان: «أهنئ هيلي شميدت على انتصارها، ويسعدني أن أسمع أنها أول سيدة تتولى منصب رئيس الحكومة في الدنمارك، ونأمل أن تصبح شريكا أوروبيا بنّاء، ونتطلع للعمل مع حكومتها الجديدة».