مهرجان «ترايبكا».. الجوائز لمن يستحقها

«نورمال» و«عمر قتلني» و«العذراء» و«سعاد حسني» يستحوذون عليها

المخرج الجزائري مرزاق علوش عقب فوز فيلمه بجائزة المهرجان
TT

تقدم المخرج المصري خالد الحجر بشكوى رسمية إلى إدارة مهرجان «الدوحة ترايبكا» السينمائي بعد إعلان النتائج وخروج فيلمه «الشوق» خالي الوفاض من الجوائز، مشيرا إلى أن إحدى عضوات لجنة التحكيم في مسابقة الفيلم الروائي باحت برأيها في الأفلام قبل إعلانها، رغم أن هذا لم يكن صحيحا على الإطلاق، فلم يستطع المخرج إثبات حدوث ذلك بوثيقة رسمية.

والحقيقة هي أن فيلمه - كما سبق وأن أشرت إليه في مقال نشرته الجمعة الماضي على صفحات ملحق «الوتر السادس» - لم يكن يستحق الجائزة، فهو فيلم صاخب في بنائه الفني والدرامي، بينما الفيلمان الفائزان «نورمال» (طبيعي) للمخرج الجزائري مرزاق علواش الحاصل على جائزة أفضل فيلم عربي، و«عمر قتلني» الذي استحق جائزتين، الأولى للمخرج رشيد زيم والثانية لبطل الفيلم سامي بوعجيلا أفضل ممثل، كانا هما بحق الأفضل. أيضا حصل فيلم «هلأ لوين» لنادين لبكي على جائزة الجمهور، وهو أيضا يستحق هذا التقدير.

الأفلام الثلاثة الفائزة جمع بينها سخونة القضايا التي يتم تناولها وأيضا براعة وعمق التعبير الفني بعيدا عن الصخب الذي كان هو الطابع المميز لفيلم «الشوق».

المخرج الجزائري مرزاق علواش، الذي يعد واحدا من أهم المخرجين العرب الآن الذين يشاركون بأفلامهم في أهم المهرجانات العالمية، قدم فيلما يتناول الواقع العربي من خلال ثورات الربيع. توجه بزاوية رؤية مختلفة حيث كان الشباب هم محور الانطلاق.. في فيلمه قبل الأخير «حراقة» الذي عرض في مهرجان «فينسيا» قبل نحو عامين كان يتناول معاناة الشباب الجزائريين الذين تقطعت بهم سبل الحياة ولم يعد لديهم من حلم سوى الهجرة خارج الحدود. والمقصود بكلمة «حراقة» هؤلاء الشباب الذين يقطعون كل الصلة بينهم وبين الأرض التي ينتمون إليها فيحرقون أوراق الهوية التي تشير إليهم قبل أن ينطلقوا في رحلة إلى المجهول في عرض البحر، حيث تتقاذفهم الأحلام بتحقيق الثراء وتغتالهم الكوابيس بأن تأكلهم الأسماك المتوحشة قبل أن يصلوا إلى الشاطئ البعيد على الضفة الأخرى. جاءت النهاية في الفيلم مأساوية حيث لقوا حتفهم إما غرقا وإما قتلا.

هذه المرة بفيلمه «طبيعي» (normal) يتناول أيضا أحلام وإحباطات الشباب الذين قرروا هذه المرة التشبث بالبقاء على أرض الوطن وتغييره للأفضل، حيث يقطع المخرج في بنائه للفيلم الخط الفاصل بين الرؤيتين التسجيلية والروائية من خلال حبكة درامية تقدم أيضا معاناة الشباب الذي يتمسك بأرضه، فيقرر هذه المرة أن ينزل إلى الشارع مناضلا فيهتف من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية.

عين المخرج توجهت إلى تفاصيل عاشها الشباب، من خلال مشاهدة جماعية لفريق العمل لفيلم تسجيلي قدمه قبل عامين ويحاول استكماله وإضافة أشياء تتوافق مع الحالة والمزاج النفسي، حيث أيقظت مشاعره بأحاسيس متضاربة متابعته للمظاهرات التي اندلعت في الجزائر قبل الثورتين التونسية والمصرية وهي تطالب بالحرية. وكذلك نجاح الثورتين التونسية والمصرية.. المخرج يستعيد الشريط الذي صوره مع الممثلين وكأنه يسأل: هل نعيد اللحظة الزمنية التي عشناها من قبل لنراجعها طبقا لمشاعرنا الآن أم أن مواقفنا مرتبطة بالزمن الذي عشناه؟ هل الثورة التي نراها حاضرة بقوة في مشاهد الفيلم وعبر «يوتيوب» غيرت من أفكارنا وقناعاتنا قبل الثورة؟

أكدت الثورات العربية أن الشباب لم يتوانَ عن دفع ثمن الحرية، وفي نفس الوقت كانت عين المخرج ترصد هؤلاء الشباب على كل الأوجه التي فرضت نفسها عليهم.. الممثل الذي يؤدي دور المخرج في الفيلم يؤمن أن دوره كمخرج هو الأهم.. إنه لا يخشى النزول إلى الشارع ولكنه يفضل أن يقدم رأيه كفنان على شريط سينمائي، بينما الآخرون قناعتهم هي أن لو كل إنسان اكتفى بالتعبير عن الثورة من خلال موقعة ولم يشارك في النزول إلى الشارع فلن تقوم ثورة في أي دولة في العالم! هل المخرج هو معادل موضوعي للديكتاتور الذي يملك حياة الناس من خلال تحكمه في نهاية الأمر بمصائرهم عن طريق المونتاج النهائي للعمل الفني؟ وهكذا يتم عبور الخط الفاصل بينهما، أقصد تطل علينا الشخصيات التي نراها أمامنا على الشاشة بعد أن تتمرد على حاجز الخيال، وفي نفس الوقت يطل علينا المخرج متخطيا حاجز الشريط السينمائي.. هل تغير الديكتاتور بعد الثورة أم أنه يظل قابعا بداخل بعضنا يتحين الفرصة للانقضاض؟! الفيلم يرى أن الثورة في الشارع العربي هي التي تملك الآن الحسم، الكل صار خاضعا لإرادتها، ولهذا يبدأ الفيلم بلافتة مرفوعة عن العدالة والحرية وينتهي أيضا بنفس اللافتة وهي تملأ الشاشة وتهيمن على كل التفاصيل.

الفيلم الذي يجمع بين الرؤيتين التسجيلية والروائية في الكثير من خيوطه يترك مساحة في نهاية الأمر لكي يقترب من الحالة الواقعية، وكأننا بصدد برنامج مما يطلق عليه تلفزيون الواقع. وتستطيع أن تعتبرها في هذه الحالة سينما الواقع، ولهذا كثيرا ما كانت الكاميرا المحمولة هي أداة التعبير.. قليلا ما لجأ المخرج إلى القطع من شخصية إلى أخرى.. حركة الكاميرا في بعدها النفسي تشعرنا أكثر بالإحساس الواقعي.. الممثلون في هذا الفيلم كانت التوجيهات الصارمة لهم هي الالتزام بحالة العفوية، ونجحوا تماما في توصيل هذا الإحساس مثل عديلة بن ديمراد ونها مثلوطي ونجيب البسير، وكانت موسيقى يحيى بو شعلة تمنح الشريط المرئي وهجا وألقا خاصا.

ثورات الربيع العربي شاهدتها في الكثير من الأفلام تسجيلية وروائية، ولكني أراها بزاوية أخرى من خلال هذا الفيلم الذي أثبت به مرزاق علواش أنه لا يزال نبضه السينمائي شابا، بل ومشاغبا حتى لو لم يحمل لافتة في الشارع الجزائري وينزل للشارع مثل أبطال الفيلم يطالب فيها بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

فيلم مرزاق علواش كان هو الأفضل ولم ينافسه إبداعيا سوى فيلم «عمر قتلني» الذي تناولته بالأمس فاستحق المخرج جائزة وبطل الفيلم جائزة، بينما انحاز الجمهور في مهرجان «الدوحة» إلى فيلم نادين لبكي الذي بالفعل حقق عند عرضه تجاريا في لبنان وفرنسا إيرادات غير مسبوقة، مما يؤكد أن الفيلم والجمهور صارا على نفس الموجة، هكذا حصل «هلأ لوين» على جائزة الجمهور التي تصل قيمتها إلى 100 ألف دولار مثل جائزة أفضل الفيلم! في إطار مسابقة الأفلام التسجيلية فاز الفيلم المصري «العذراء والأقباط وأنا» بجائزة لجنة التحكيم. يذكرني مخرج الفيلم نمير عبد المسيح في تفاصيل فيلمه السينمائي بروح المخرج البوسني أمير كوستاريكا الحائز على «سعفة» مهرجان «كان» ثلاث مرات، حيث يمزج في أفلامه بين الروح الساخرة والفانتازيا مع حضور مؤثر للشريط الصوتي والموسيقي، وهو ما رأيته في فيلم المخرج نمير، المصري المولد والأبوين، الفرنسي الجنسية، الذي قدم من خلال الفيلم إحساسه الحقيقي بأهله في صعيد مصر، فشاهدنا المصريين البسطاء بعيدا عن الديانة.. نقطة انطلاق الفيلم تبدأ من خلال طرح ظاهرة ظهور السيدة العذراء، والسؤال: هل هي حقيقة أم وهم؟

الحديث عن ظهور السيدة العذراء مرتبط دائما في مشاعر المصريين بتلك الأوقات التي يشعرون فيها بالحاجة إلى معجزة.. وهكذا واكب الحديث عن الظهور أو التجلي في أعقاب الهزيمة بعد 67 حيث تجمع الملايين في شهر أبريل (نيسان) 68 في كنيسة «العذراء» بحي الزيتون بالقاهرة، الكل يؤكد أنه شاهد العذراء وأنها تبارك مصر وشعبها وقالوا إن عبد الناصر كان من بين الملايين الذين باركوا تجليها ومنحتهم القدرة على العبور بمصر من هاوية الهزيمة.. وهو ما تكرر مؤخرا بعد أحداث «ماسبيرو» حيث تجدد الحديث بين المصريين عن ظهور العذراء في أكثر من كنيسة.

الفيلم الذي قدمه نمير يتوازى به خطان، تسجيلي ودرامي.. الابن الذي قرر أن يأتي إلى مصر وينتقل إلى الصعيد في نفس القرية الصغيرة التي عاش فيها واحتضنته طفلا يقدم في الفيلم أهالي قريته وهم في مولد السيدة العذراء.

السؤال عن حقيقة تجلي العذراء كان هو نقطة الانطلاق في الفيلم ولكنه ليس هو الفيلم، فلقد حرص المخرج أن يقدم لنا مصريين يعيشون في صعيد مصر لتنتهي الأحداث والأم والابن في طريق العودة إلى باريس، وسوف تنسى ديانة كل هؤلاء وتتذكر فقط أنهم مصريون أولا قبل أن يكونوا أقباطا.

ويبقى فيلم المخرجة اللبنانية رانيا اسطفان الوثائقي «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة»، الحاصل عل جائزة الإخراج بالمهرجان. المقصود بتلك الاختفاءات هي أولا ابتعادها عن السينما السنوات العشر الأخيرة من عمرها، وثانيا اختفاء أشرطة الفيديو التي اعتمدت عليها المخرجة في إعداد المادة التوثيقية لفيلمها، والاختفاء الثالث هو رحيل سعاد حسني عن الحياة.

يحسب للمخرجة أنها رغم الحديث الصاخب والمفتعل الذي نراه ونقرأه كثيرا الآن عن حياة سعاد حسني الشخصية وإقحام المخابرات في حياتها، حيث اختلطت الحقائق القليلة بالأكاذيب الكثيرة، فإن المخرجة ابتعدت عن كل ذلك وقدمت سعاد حسني أسطورة وأيقونة الفن العربي بعين سعاد حسني.. أفلام سعاد هي التي تناولت إبداع سعاد الفني، كان هناك جهد رائع في المونتاج واختيار اللقطات والربط بينها بحرفية على المستوى الشكلي، ولكن ظل العمل الفني ينتظر رؤية فكرية تحلل أكثر أسباب تفرد سعاد حسني في فن الأداء الدرامي، وهو حقيقة ما افتقدته في هذا الفيلم!