لبن أربيل.. سهل إنجاز معاملات المواطنين الكرد في بغداد بالعقود الماضية

أصبحت كردستان تستورد اليوم لبنها من دول الجوار

تمتلئ المحلات والسوبرماركت في مدن كردستان بأنواع شتى من اللبن المستورد
TT

لا تخلو مائدة الفطور في أي بيت كردي من اللبن والجبن الكردي المصنوع محليا، حتى أبناء الجاليات الكردية في أقصى بلدان العالم عندما يأتون في زياراتهم إلى كردستان، يحملون عند رجوعهم كميات من الجبن الأربيللي وأحيانا قدورا من اللبن ليفرحوا به قلوب عائلاتهم وأصدقائهم في المهجر. والمقصود باللبن ليس الحليب كما يسميه المصريون وغيرهم، بل ما يسمى عندهم بـ«الزبادي»، وعند العراقيين والكرد يسمى «اللبن». ومن أشهر أنواعه اللبن الأربيللي الذي طالما سهل أنجاز معاملات المواطنين الكرد في بغداد بالعقود الماضية، عندما كانوا يحملون كميات منها إلى مسؤولي الحكومة والوزارات ببغداد على سبيل الرشوة، وذلك حين كانت معاملات كل المواطنين العراقيين تنجز في بغداد أيام السلطة المركزية، لا بل إنه كان كفيلا بإخراج البعض من الموقوفين بمديرية الأمن العامة إذا ما عزز بغزال كردي، وهذا ما حصل مع المواطن كريم الذي استطاع أن يخرج ولده من هيئة التحقيقات الأمنية قبل أن يواجه حكما بالإعدام، بإهداء أحد كبار الضباط غزالين وقدرا كبيرا من اللبن الأربيللي.

ولبغداد قصة طريفة مع لبن أربيل، حيث يروى أن كرديا دخل ابنه إلى الجيش في ستينات القرن الماضي لأداء الخدمة الإلزامية ونسب للخدمة في وزارة الدفاع العراقية، وكانت الرسائل البريدية هي الواسطة الوحيدة للتواصل والتراسل بين الأهل والأصدقاء على عكس هذه الأيام من عصر الإنترنت والجوال، فأرسل رسالة إلى ولده وكتب العنوان على الظرف كما يلي «بغداد - وزارة الدفاع مقابل لبن أربيل». حيث كان هناك محل يبيع لبن أربيل ويقع مقابل مبنى وزارة الدفاع العراقية في ساحة الميدان بمنطقة باب المعظم. والنكتة تروى على سبيل الدعاية لأهمية لبن أربيل وشهرتها المدوية وخصوصا في بغداد بتلك الحقبة.

اعتاد مجيد سليمان الذي كان سائق سيارة نقل على خط أربيل - بغداد أن ينقل بشكل شبه يومي كميات من لبن أربيل إلى بغداد مع بعض الركاب الذين تضطرهم معاملاتهم الرسمية إلى الذهاب لبغداد. ويقول «كان من النادر أن لا نصادف يوما يحمل فيه مواطن قدرا من اللبن الأربيللي إلى بغداد على سبيل الرشوة لإنجاز معاملاته، فالبغداديون كانوا يعشقون لبن أربيل، وكذلك الجبن، ونحن السواقين اكتسبنا خبرة كبيرة في طريقة حفظ اللبن إلى حين إيصاله إلى بغداد دون أن يفسد، كنا نضع في صندوق السيارة الخلفي صندوقا خشبيا مع كميات من الثلج لنغطي بها اللبن أو الجبن المنقول إلى بغداد، لأن الطريق كان طويلا.. نحو ست أو سبع ساعات بسبب رداءة الطرق الخارجية في تلك السنوات، وكان اللبن يفسد سريعا خصوصا في فصل الصيف، لذلك كنا نبرده بالثلج للحفاظ عليه في الطريق. وغالبا ما كان المسافرون يسألون السائق منذ البداية إذا كان يحمل صندوقا لحفظ اللبن قبل أن يركب السيارة».

عن جودة اللبن الأربيللي يتحدث الدكتور طالب مراد مستشار رئيس حكومة إقليم كردستان والخبير الزراعي المتقاعد في منظمة الفاو قائلا «يمتاز لبن أربيل بالجودة العالية، يماثل في جودته اللبن المصنوع في بلغاريا واليونان وهما الدولتان الأكبر المنتجتان للبن، ويصنع هذا النوع من اللبن من بكتيريا ذات جودة عالية، ويؤخذ الحليب مباشرة من الأغنام والماعز، أما الجبن الكردي فهو بدوره يمتاز بأعلى درجات الجودة، فهو جبن لا يعلو عليه آخر، معروف بالقساوة ومضغوط مثل الجبن السويسري، ومن الممكن للعوائل أن تحتفظ به طوال فصل الشتاء دون أن يفسد». ويضيف «في العراق عموما كان عدد رؤوس الأغنام والأبقار كبيرا جدا، وخصوصا في كردستان حيث المراعي الطبيعية، وعلى سبيل المثال كان عدد رؤوس الأغنام والمواشي عام 1963 يقارب 23 مليون رأس في حين كان عدد السكان لا يتجاوز سبعة ملايين، والرقم أصبح معكوسا اليوم، حيث عدد السكان 23 مليونا وعدد المواشي سبعة ملايين، لذلك كان إنتاج الألبان والأجبان وغيرها من المشتقات في تلك الفترة وفيرا جدا».

بسبب هذه الأزمة أصبحت كردستان تستورد اليوم لبنها من دول الجوار كما تستورد جميع أنواع موادها الغذائية الأخرى بما فيها الخضراوات والفاكهة. ويلفت الدكتور مراد إلى هذه الظاهرة الخطيرة وهو مستشار الأمن الغذائي لرئيس حكومة كردستان ويقول «أصبحت دول الجوار تمسك بأعناقنا، خصوصا إيران وتركيا، حيث إن نسبة 95% من غذائنا اليومي تأتي من هناك، فإذا أغلقت أي من الدولتين حدودهما بوجه انتقال بضائعها فإننا سنموت جوعا، وقد نبهت مرارا المسؤولين إلى هذا الموضوع ولكن ما من مجيب، فالتجارة يبدو أنها تدر أرباحا على بعض التجار الكبار، وهذا طبعا على حساب أمننا الغذائي وإنتاجنا المحلي». ويضرب الدكتور مراد مثلا باللبن ويقول «بعض الدول تصدر إلينا حليبا وهي لا تمتلك الأبقار أساسا، مثل بعض دول الخليج، وهذا الحليب الذي يأتي هناك مكتوب عليه (حليب طبيعي) صحيح أنه حليب طبيعي ولكنه مصنوع من الباودر المستورد من قبلهم من دول أخرى».

اليوم تمتلئ المحلات والسوبرماركت بمدن كردستان بأنواع شتى من اللبن المستورد، وخصوصا من إيران وتركيا اللتين باتتا تغزوان أسواق كردستان بجميع أنواع المواد الغذائية، ففي «الماجدي مول» وهو أكبر سوبرماركت بمدينة أربيل لا تجد منتجا زراعيا واحدا من الخضر والفاكهة المحلية، كل أنواع الخضار المرصوفة هناك من منتوجات دول الجوار.

ويقول العم أحمد وهو يبيع اللبن بسوق شيخ عبد الله في مركز مدينة أربيل «عدد محلات بيع اللبن والجبن قل كثيرا، ففي الخمسينات وحتى نهاية التسعينات كان بيع اللبن والجبن الكردي هو الأكثر رواجا في المدينة، وكانت محلات بيع هذه المنتجات تفوق بإعدادها كل المهن الأخرى، هنا في هذا الشارع كانت هناك عشرات المحلات لبيع منتوجات الألبان، واليوم لا يزيد العدد في كل أنحاء المدينة عن أصابع اليدين، لقد غزا اللبن الإيراني أسواقنا على حساب إنتاجنا المحلي».

يقول المواطن حسن خوشناو «ليس هناك لبن يعلو على لبن أربيل، وخصوصا في فصلي الربيع والصيف وهما موسم إنتاج اللبن المحلي، فليس هناك ألذ من هذا اللبن، ولكن للأسف الجيل الحالي تغيرت ثقافته الاستهلاكية حتى بات اللبن المستورد يزيح اللبن المحلي، فالجيل الحالي لا يميز بين طعم اللبن المحلي والمستورد، المهم عنده أن يفطر على اللبن صباحا، في حين أننا كنا في الماضي ننهض من النوم عند ساعات الفجر لكي نذهب إلى السوق وننتظر قدوم القرويات من أطراف مدينة أربيل وهن يحملن قدورا من اللبن الطازج لكي نشتريه ونعود به إلى بيوتنا لتحضر زوجاتنا الفطور الصباحي للأولاد قبل خروجهم إلى المدارس».

اللبن الأربيللي الذي مجده الكثير من الكتاب والمستشرقين، ومنهم مؤلف كتاب «رحلة إلى بلاد الشجعان» الصحافي دانا آدمز شميدت الذي أشار في كتابه إلى أنه تذوقه بحضرة الزعيم الراحل مصطفى بارزاني والد رئيس الإقليم الحالي واصفا اللبن الأربيللي بأنه «شراب لذيذ» أصبح هذا اللبن اليوم ضائعا تحت زحمة غزو المنتجات المستوردة للأسواق المحلية بكردستان، فكيف بفقدانها في بغداد العاصمة.