رضع يستهلون حياتهم بالبقاع المقدسة.. وشيوخ يريدونها «حجة الوداع»

أحدهم يتبرك بها للحياة.. والآخر يفضل أن يبعث ملبيا

لا يظن الحجاج أن بقعة تصلح لتسليم الروح كالمشاعر المقدسة، فتجد الواحد منهم يقطع آلاف الكيلومترات من بلده في أقاصي القارة الصفراء أو السمراء من أجل زيارتها
TT

تبدو فرصة سانحة وصفقة رابحة، ويمكن أن نصنفها بمثابة بداية محرقة للبعض أو نهاية مشرقة لآخرين، يفهمها كل من عركته أحوال الدنيا وخطوب العمر، واستقرت في عقل مسلمين ومسلمات يفضل كل منهم اليوم أن تأخذهم على حين غرة أيام الحج لتنقلهم إلى الحياة الأخرى، أو آخرون يفضلون أن يبدأ أبناؤهم وبناتهم رحلة العمر وسنينه مالئين صدورهم بنسيم المشاعر الطاهرة في مكة والمدينة وعرفات ومنى ومزدلفة.

تشاهدهم في مثل هذه الأيام كل عام.. أطفال لم يعرفوا نصف الربيع الأول من العمر ملبين في أحضان أمهاتهم، أو كهول يقضون الخريف منه ملبين في أحضان أبنائهم. مهما كان العمر ومهما تعددت الاختلافات، يجتمع الفريقان ضمن لوحة واحدة مجيبين النداء «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك»، عله تجبل عليه حياة واحد منهم، وعل الآخر يبعث في اليوم الآخر رافعا به الصوت بين يدي ربه.

وإن كان لا شيء غريبا في أن يتبارك الإنسان بالطاعة والحج ليبدأ بها حياته، فإنه أيضا لا غرابة أن يأتي أحد من الناس إلى مكان ما ليموت، إذ إنه لا يفعلها منتحرا منهيا حياة لفتها الكآبة والوجد، ولا ليدمر ما حوله بادئا بنفسه، بل رغبة في جوار الله من أقرب مكان إليه، مع أن الله أقرب إليه من حبل الوريد.

يرحم حال أولئك الأطفال الصغار الرضع الكثير من الطائفين حول الكعبة، أو المهرولين بين الصفا والمروة، أو الواقفين بصعيد عرفات، أو من يبيتون في مشعر منى أو مزدلفة، ويستغربون تلك القوة في آبائهم بأخذهم أبنائهم إلى المكان المزدحم أو الحار أو البارد والذي يرجح غالبا فيه انتشار بعض الأمراض، لكن مشاعر أولئك الآباء والأمهات الأرحم طبعا ترى أن بركة ما يعود على أطفالهم تلغي ما يلاقونه هم أو أبناؤهم من مشقة.

ومن ذلك أن البعض يستعرض سير عدد من رجالات التاريخ الإسلامي العظام سياسة وعلما، والذين ولدوا في مناسبات كهذه أو حضروها صغارا، كالإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، والصحابي حكيم بن حزام رضي الله عنه، اللذين ولدا داخل الكعبة المشرفة.

وإن لم تكن الولادة - في رأيهم - فليعش الرضيع أولى لحظات العمر في تلك البقاع، وليلبي أول نداءات ربه الذي أوجده في هذه الدنيا قبل ذلك بأيام، لأن ما لا يدرك كله لا يترك جله.

حسن عيدروس، وهو في طريقه لأداء مناسك حج هذا العام، قال لـ«الشرق الأوسط» إن فكرة إرفاق الأطفال خاصة الرضع في الحج أو العمرة قد تتسبب في إلهاء الأهالي عن أداء العبادة في هذا المكان، وقد تتسبب في الكثير من القلق لهم «خاصة لو كان الأهالي يؤدون حجة الفريضة، فإن عدم مرافقة الأطفال أكثر تأكيدا هنا، خاصة أن الحج ليس لزاما لمثلهم، ويجب تحاشي ما قد يتعرضون إليه من حوادث أو تلوث» كما يضيف. واستدرك قائلا «قد يكون البعض معذورا في إرفاق أطفاله معه».

أما الآخرون فلا يظنون أن بقعة تصلح لتسليم الروح كالمشاعر المقدسة، فتجد الواحد منهم يقطع آلاف الكيلومترات من بلده في أقاصي القارة الصفراء أو السمراء، وقد بلغ من العمر عتيا، ثم يجهد نفسه أثناء أداء مناسك الحج حتى يصل لغايته في إسلام الروح هناك.

الموت أثناء الحج علامة فارقة ومسجلة باسم صاحبها، ودليل على حسن خاتمته، فالله تبارك وتعالى يقول «وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»، وقد فقد رجل ناقته أثناء حجة الوداع، فمات وكان محرما، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يكفنوه في ثوبيه، وألا يخمروا رأسه ولا يمسوه بطيب، وقال صلى الله عليه وسلم «فإنه يُبعث يوم القيامة ملبيا». وفضلا عن أن هذه الميتة فيما لو تمت لصاحبها فإنها تقع في خير أيام الدنيا كما جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن صاحبها قد يكرم بمدفن في مكة المكرمة أو المدينة المنورة، قريبا إلى المكان الذي أسلم فيه الروح.

الشيخ إسماعيل آدم، إمام أحد مساجد جدة، قال إن فكرة الذهاب إلى الحج في مرحلة طاعنة من العمر موجودة فعلا، وبغض النظر عن صحتها أو لا فإنها دليل على أن الكثير من الناس من المسلمين والمسلمات يتوقون إلى البقاع المقدسة لدرجة أنهم يتمنون أن تكون آخر صلاتهم بالحياة الدنيا.

بركة الحال بالنسبة لذلك الطفل أو ذلك الكهل تشمل زمانا يوصف بأنه الأفضل، ومكانا هو الأفضل، ووضعا هو الأفضل، فهم في حمى عشر ذي الحجة التي هي خير أيام الدنيا أو يوم عرفة خير يوم طلعت فيه الشمس، أو يوم عرفة الذي يسمى يوم الحج الأكبر، أو أيام التشريق التي هي أيام أكل وشرب وذكر لله كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام.

أما بالنسبة للمكان فهم إما في أطهر بقاع الدنيا ومهبط الوحي مكة المكرمة، أو في صعيد عرفات الطاهر الذي يباهي الله ملائكته بالواقفين فيه، أو في مشعري منى ومزدلفة اللذين مر بهما أنبياء الله عليهم السلام. وغير ذلك فإن الحجاج في حالة إحرام يترتب عليها ما لا يترتب عليها من الأحوال، ويلزم فيها ما لا يلزم في غيرها أمرا ونهيا.

الحج بأحواله المختلفة مهما كان وقته ومهما كان حال القادم إليه يبقى شرفا، سواء لمن بدأ أو أنهى حياته به، فكثير من الناس يعتبر حجه انطلاقة جديدة في حياته نحو علاقة أقوى بخالقه وحسن في التعامل مع من حوله.