صمت وأسرار النساء في معرض

«نساء فيرمير».. معرض يتسلل ببطء إلى عقل المتفرج وقلبه

«صانعة الدانتيل» يوهاناس فيرمير (متحف اللوفر)
TT

ما الذي تخفيه النساء؟ وما اللغة الخفية التي تمكننا من قراءة أفكارهن؟ النساء اللاتي يحتللن أرجاء هذا المعرض الناعم وأيضا الهادئ لا يصرخن ولا يعبرن عن عواطفهن أو أفكارهن بعنف أو حتى بصوت عال ونظرات واضحة وصريحة.. على العكس نراهن إما جالسات أمام آلة البيانو، أو يقرأن خطابا، ومنهن من تتركنا وتدير ظهرها لنا لتنظر من النافذة أو حتى تنظر لمرآتها بنظرات ساهمة. هؤلاء هن «نساء عالم (فيرمير)» الرسام الهولندي الذي عاش في القرن السابع عشر، وعبر بأعماله القليلة العدد (35 لوحة) عن النساء ودخل عالمهن المحجوب بستر وجدران ونقل ما رآه إلى لوحات فنية لم تمنحه الشهرة أو المال في وقت حياته؛ فقد مات معدما، ولكنها أصبحت من روائع الفن العالمي في عصرنا هذا.

وعندما قام متحف «فيتزويليام» في كمبريدج بالاتفاق مع متحف اللوفر على تبادل بعض اللوحات؛ منها لوحة «صانعة الدانتيل» ليوهاناس فيرمير وهي المرة الأولى التي تعرض فيها اللوحة في بريطانيا، قرر القائمون عليه إقامة معرض يحتفل بتلك اللوحة التي لم تفقد شيئا من جمالها أو من وقعها، وكان من الممكن بالطبع الاكتفاء بـ«صانعة الدانتيل» فسوف تضمن للمتحف عددا ضخما من الزوار؛ فلفيرمير عشاقه الذين يسافرون من بلد لآخر لرؤية أحد أعماله، ولكن د. مارغوري وايزمان، مسؤولة قسم اللوحات الهولندية في «ناشيونال غاليري» بلندن والقيمة على المعرض، قالت إنها رأت الفرصة سانحة لإقامة معرض يستكشف العالم الذي نقله فيرمير ببراعة وحب. وعبر إضافة عدد منتقى من الأعمال التي نفذها فنانون آخرون من معاصريه، أصبح في الإمكان رسم صورة موسعة للعالم المنزلي لنساء هولندا في منتصف القرن السابع عشر؛ فمن المعروف أن فناني تلك الفترة اهتموا بالتصوير الداخلي، وكان من الطبيعي عند رسم اللوحات داخل المنزل أن تكون النساء والأطفال هن البطلات الرئيسيات لتلك اللوحات.

رغم الدعاية المحدودة، فإن الزوار تدفقوا لحضور المعرض وامتلأت قاعات المتحف بالزوار الذين وقفوا بصبر يماثل صبر ساكنات تلك اللوحات، انتظارا للفوز بدقائق بسيطة أمام كل لوحة، خاصة اللوحة الرئيسية للمعرض. وتعليقا على عدد الزوار، تقول إحدى العاملات في المتحف: «لا يمكننا القول إن العدد اليوم ضخم، فقد كانت هناك أيام يمتد فيها طابور الزوار على مدى ثلاثة طوابق ابتداء من مدخل المتحف».

لا يمكن للمرء أن يتجاهل الفنان الأهم هنا، وهو فيرمير، وبالتالي، فإن أية زيارة للمعرض لا بد أن تبدأ برؤية اللوحات الأربع للفنان.. استعارها المتحف من المجموعة الملكية و«ناشيونال غاليري» في لندن، ومن مجموعة خاصة بنيويورك، بالإضافة إلى «صانعة الدانتيل». البداية مع فيرمير تحدد الرؤية وترسم الجو العالم للمعرض؛ فعبر لوحة «صانعة الدانتيل» يجد المرء نفسه مشدودا لتلك الفتاة المنحنية في صمت تنسج بيدها قطعة من الدانتيل.. تبدو الفتاة منصرفة تماما لعملها ومستغرقة للخيوط التي تمسك بها، ولا يسعنا هنا كمتفرجين إلا أن نحترم صمتها.. أن نتأمل التفاصيل الدقيقة التي حرص الفنان على إبرازها، سواء كان ذلك التصوير المدهش للتفاصيل الصغيرة في ياقة فستان الفتاة، أو الخيوط المتناثرة من علبة الخياطة إلى جانبها، أو شعرها المصفف بعناية. وتجذبنا قدرة الفنان المدهشة على نقل الصورة بحذافيرها وكأنه يلتقط صورة فوتوغرافية للفتاة، والمعروف أن فيرمير كان من أوائل من استخدموا الكاميرا المظلمة للوصول إلى تصوير دقيق لتفاصيل لوحاته واشتهر ببراعة استخدامه الضوء.

المعرض يعد الأول من نوعه الذي يتخذ من الجو المنزلي لدى فيرمير موضوعا ويدعمه بلوحات من فنانين آخرين من معاصريه من فناني العصر الذهبي للفن الهولندي. وتمثل الواقعية الشديدة التي صورت بها تفاصيل المناظر داخل البيوت نافذة للمتفرج للإطلال على عالم النساء في القرن السابع عشر، ورغم أن تلك المناظر تعد مألوفة لنا حتى في زمننا هذا، فإن ذلك لا يفقد تلك اللوحات سحرها، فاستراق النظر لامرأة تقرأ، أو تشرد ببصرها خارج النافذة، أو تنشغل بالأعمال المنزلية، أو بقراءة خطاب خاص جدا.. كل تلك المناظر لا زمن لها.

ولكن المدهش في المعرض هو الإحساس الذي يمنح للمشاهد بأن الفنان يرفع له ستارة عن مشهد قد لا يراه عادة؛ ففي الكثير من اللوحات المعروضة نرى ستارة مرفوعة في أحد جوانب اللوحة، أو نرى بابا مفتوحا أمامنا نستطيع أن نتسلل ببصرنا من خلاله لنرى ساكنات هذا المكان، بعضهن ينظرن إلينا بنظرة موحية كأنما تدعونا لمشاركتها في تلك اللحظة؛ مثل لوحة «امرأة تعزف» لفيرمير، وفيها تنظر لنا العازفة على البيانو وكأنها تدعونا لالتقاط آلة الكمان الموضوعة في مقدمة اللوحة والاشتراك معها في ثنائي موسيقي. ولكن هناك من تنشغل بعالمها الخاص فهي تنظر في مرآتها لتلبس عقد من اللؤلؤ، أو تنتظر أن تنتهي خادمتها من مساعدتها في تصفيف شعرها، أو تطل من نافذتها لتراقب ما يجري في الشارع.

من جانبه يقول د. تيموثي بوتس مدير متحف «فيتزويليام»: «(نساء فيرمير) يمثل فرصة نادرة للاستمتاع بمشاهد من داخل المنزل الهولندي، وترى لمحات خلدها فيرمير بأسلوبه الذي يتميز باستخدام الإضاءة بمهارة شديدة».

المعرض يضم 28 لوحة لفنانين أمثال بيتر دي هوك، وجيرارد تير بورش، وجان ستين، ويستمر حتى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل.