لندن: «موسيقيو» مترو الأنفاق يعتبرون قوانين تنظيم عملهم «وسيلة» للتخلص منهم

يقدمون 100 ألف ساعة موسيقية سنويا لـ3.5 مليون متنقل يوميا

يعتبر العزف والغناء داخل محطات مترو الأنفاق في لندن وسيلة للربح، إذ يجني الموسيقي ما بين 40 و100 جنيه يوميا (تصوير: حاتم عويضة)
TT

وسط أحد أروقة محطة «بوند ستريت»، شريان محطات قطار الأنفاق (المترو) الرابط ما بين شرق العاصمة البريطانية لندن وغربها، يقف غوراند، وهو شاب عشريني ذو ملامح شرق أوروبية خلف قيثارة ضخمة عازفا موسيقى الروك أند رول.

وما إن اقتربنا منه حتى نظر بقلق قائلا: «عفوا.. لا أستطيع بيعكم أسطوانات!»، ظنا منه أننا نرغب في شراء إحدى أسطواناته الموسيقية، إذ يعد هذا الأمر تجاوزا يؤدي إلى سحب رخصة عمله كموسيقي في محطات القطارات، بحسب سلسلة من التنظيمات فرضتها مؤخرا هيئة مواصلات لندن.

وعلى الرغم من أن القصد من هذه القوانين هو تنظيم عمل الموسيقيين المتجولين، فإنهم يرونها وسيلة غير مباشرة للتخلص منهم تدريجيا والتعدي على وجودهم الذي شكل جزءا من النشاطات على أرصفة الشوارع في إنجلترا منذ قرنين من الزمان.

وفي حقيقة الأمر فإن بلدية لندن تدرك تماما أهمية وجود عازفي الموسيقى في مختلف محطات القطار كواجهة حضارية تعزز من مكانة العاصمة الموسيقية، وهذا بالطبع ما دفع هيئة المواصلات لإطلاق مشروع لتنظيم عمل الموسيقين في المحطات، في حين تبنى عمدة المدينة بوريس جونسون مسابقة سنوية لأفضل الموسيقيين المتجولين في محطات القطار تقديرا لهم. ولكن هذا المشروع صاحبته سلسلة من القوانين اعتبر البعض أنها تمارس «التمييز» ضدهم وتتنافى مع حرية التعبير الفني في الساحات والميادين.

وربما أكثر ما أثار استياء الموسيقيين هو «القائمة السوداء» التي وضعتها هيئة المواصلات لتحدد من خلالها الآلات الموسيقية «غير المرغوبة» ومن بينها الأكورديون وآلات نفخ القرب الإسكوتلندية والطبلة وعدد آخر من الآلات، وبسبب تلك القوانين انصرف عدد من الموسيقيين الذين لا يجيدون العزف إلا عليها عن الوجود في محطات القطارات. وبالإضافة إلى ذلك لم يعد يُسمح للموسيقيين بعرض أسطواناتهم الغنائية أو بطاقات التواصل الخاصة بهم للمتنقلين عبر مترو الأنفاق، الأمر الذي أثر على الطلب عليهم لإحياء مناسبات وحفلات خاصة، وهي من أهم مصادر دخلهم.

وللعلم، يُقدم موسيقيو مترو لندن أنغامهم لأكثر من 3.5 مليون متنقل عبر 100 ألف ساعة موسيقية في السنة، فيها شتى أنواع الإيقاعات، في محطات كثيرة، إحداها محطة «أوكسفورد سيركس» التي تحدث إلينا منها عازف ساكسوفون إيطالي يدعى ميكي، حيث ذكر لـ«الشرق الأوسط» أنه طُرد من ثلاث محطات من قبل مدير المحطة الذي اعتبر أن الساكسوفون عالٍ بشكل مزعج. وقال: «إنه أمر مُجحف.. فالأذواق الموسيقية مختلفة، يوجد من يحب أنغام الساكسفون ومن يطرب لصوت القيثار ذي الأصابع الأفريقية». وكانت هذه الآلة الأخير مُنعت مؤخرا من جميع محطات القطار. وأضاف ميكي (33 سنة) أن مدير المحطة الحالي لا ينفك عن إنذاره مرارا بعدم رفع الموسيقى بدرجة معينة، ويتساءل: «كيف يطلب منا خفض أنغام الموسيقى؟ هذا تمييز واضح ضد حرية التعبير الفني التي يكفلها القانون».

يُذكر أن المواقع التي يُسمح فيها بالغناء أو العزف حُددت بـ35 بقعة مرخصة في 25 محطة قطار. وقال روديغو بانتايس، أحد الموسيقيين المتجولين ويستخدم الدولسيمر (إحدى الآلات الوترية الشبيهة بالسنطور العراقي)، إن مسؤولي المحطات يرغبون في التخلص منه. عندها تجاوز بخطوة حدود المنطقة التي يُسمح له بالغناء فيها متعجبا وهو يقول: «تصوروا أن هذا الأمر قد يؤدي إلى سحب رخصتي!».

وتابع: «الأنظمة أصبحت بيروقراطية بشكل كبير.. مثلا كان حجز مواقع الغناء في الماضي يتم عبر الإنترنت، أما الآن فلا بد من القيام بذلك عبر الهاتف، وهو ما يدفعنا للانتظار على خط الهاتف المخصص الذي يكلف 60 بنسا للدقيقة». وتابع بأن هذا الرقم يتجاوز ما قد يُنثر في قبعته يوميا من تقدير المارة. وبحسب تحليله الشخصي فإن «هيئة المواصلات تدرك تماما أن هناك أموالا تجنى من وجودنا في المحطات وربما ترغب في أخذ نصيب من ذلك بشكل غير مباشر».

هذا من جانب، أما من جانب آخر فقد قال مسؤول من هيئة مواصلات لندن لـ«الشرق الأوسط» إن الأنظمة تهدف إلى أن يتم العزف والغناء بطريقة منظمة وباحترافية. ولذلك يجري اختيار الموسيقيين المتجولين بناء على تجربة أولية من قبل مختصين موسيقيين يختارون أكثرهم موهبة على أن يكون هناك تنوع في تلبية الأذواق الموسيقية. وأضاف بأن هيئة المواصلات أخذت قراراتها بناء على اعتبارات صحية وأمنية، لا سيما مع اتساع عدد المتنقلين يوميا عبر محطة الأنفاق. هذا الأمر بحسب تعبيره يحتم اعتبار سلامة المتنقلين وسهولة تنقلهم بسلاسة بحيث لا يعيق وجود الموسيقيين المداخل والمخارج لدى حدوث حالة طارئة يستعدي تدخل شرطة أو إسعاف، في حين أرجع التشديد على خفض مستوى الصوت إلى أن ذلك يحجب كثيرا صوت المكبرات التي يستخدمها مسؤولو المحطات لإبلاغ المارة بسير القطارات وقراءة تنبيهات السلامة المعتاد قراءتها لدى ركوب ومغادرة المحطة.

وبصرف النظر عن مشكلات الموسيقيين مع المواصلات ومسؤولي المترو يعتبر العزف والغناء داخل المحطات وسيلة للربح، إذ يجني الموسيقيين ما بين 40 و100 جنيه يوميا. ويسمح لكل منهم بالأداء لمدة ساعتين يوميا بعد التسجيل مع مدير المحطة قبل المباشرة في الغناء. وبحسب هؤلاء الموسيقيين فإن الوجود في المحطات القريبة من المناطق السياحية، خصوصا محطة «ليستر سكوير» التي تشهد كثافة شديدة من السياح القادمين من مختلف الأقطار تعتبر الأكثر سخاء، خصوصا بعد إغلاق المسارح عند منتصف الليل حيث يخرج الزوار مبتهجين وفي مزاج موسيقي فلا يبخلون على المغني المتجول بالمال.

ويقول بودي كودل، عازف هارمونيكا ويحمل شهادة مهنية في الموسيقى العصرية وتأليف الأغاني، إن الغناء يمثل جزءا كبيرا من دخله، بجانب إحياء الحفلات، كما يتم استدعاؤه في مناسبات خيرية وكرنفالات. ويؤكد بأن السياح القادمين من الولايات المتحدة أكثر المتنقلين سخاء، لدرجة أن أحدهم رمى بـ50 دولارا ثمنا لسماع موسيقاه لعدة ثوانٍ.

العجيب أنه أوضح أن المحطات الواقعة في مناطق الشركات والمصارف لا تدرّ أرباحا بالشكل المتوقع، مضيفا: «هؤلاء ليس لديهم وقت للتوقف، فتجدهم يتجهون سريعا صوب أعمالهم، باستثناء محطة (كناري وارف) في صباح الجمعة بسبب مساحتها وموقع الغناء الذي يواجه القادمين من السلم المتحرك».

ويقول: «لا يهم ما يرتديه المغني»، على الرغم من أن المسافرين يبدون تقديرا أكبر للموسيقي ذي الهندام المرتب، مشيرا إلى أن دوره لا يقتصر فقط على العزف وإنما على البقاء لطيفا ومبتسما.