الفن الجوال حول العالم

ريمون بوليه في غاليري فان دو سيم

من الاعمال المشاركة فبي المعرض
TT

ثمة فنانون اختاروا بإرادتهم تحقيق تكامل ما على المستوى الذي تخاطب فيه الحضارات بعضها البعض. وهذه تجربة، إن نجحت، فهي تبقى نجاحا شخصيا، لا يتجاوز في كثير من الأحيان المستوى الشخصي. بيد أن المهم هنا، الوظيفة الوجيهة للفن نفسه، حين يؤسس لنفسه حيزا يمكنه من فهم أو من التفاهم مع الآخر من خلال رؤية جمالية تتجاوز النظرة الضيقة التي بدأت تحكم العالم. فالعالم وإن كان يتسع ويكبر إلا أنه كلما كبر ضاق على الأفكار في مماثلة بليغة للنفري ونظريته في اتساع المعنى وضيق العبارة.

والحال هذه، فإن المحاولات التي بدأت قبل ريمون بوليه في محاولة التعرف على الآخر من خلال الرسم اعتبرت محاولات أغنت المناهج الكولونيالية القديمة كما حصل مع دولاكروا في رسمه للنساء الجزائريات أو حتى بول غوغان في محاولاته اللاهثة للبحث عن منابع الفن الأولى. غير أن الافتراق بين منهجي دولاكروا وغوغان السابقين والمختلفين يبدو افتراقا فكريا وفلسفيا بالدرجة الأولى مع هذا الفنان الباريسي الذي عمل من خلال رحلاته حول العالم إلى تصوير الحياة اليومية العامة للشعوب التي ساعده الحظ في التعرف عليها عن كثب. حيث إن الافتراق يكاد يكون جوهريا حين نعلم أن بوليه يعتمد على الفن التجاري الكمي لا على الرسم باعتباره رسالة تتجاوز بكثير المناهج السابقة في التشكيل. ولذلك أمكن القول: إن إنزال الفن إلى المستويات الجمالية الدنيا بوصف اللوحة عاملا تزيينيا فقط هو ما يجعل من هذا الفنان المحترف فنانا عاديا لن ينتمي إلى المدارس الكبرى في الفن التشكيلي الفرنسي.

المعرض الحالي لريمون بوليه، الذي تستضيفه صالة غاليري فان دو سيم في غرونوبل، بمناسبة الذكرى الخمسين على أول معرض أقامه في باريس. يكشف عن حجم الأسفار التي قام بها هذا الفنان حول العالم. لكن بوليه الذي كانت بداياته مع المدرسة الانطباعية في بداية الستينات، عاد وافترق عن الانطباعية الكلاسيكية ليؤسس منهجا أصبح اليوم متداولا جدا يخلط بين أنماط فنية مختلفة مثل الطباعة والكولاج وصولا إلى السجاد والنحت. وهو تعدد لدرجة أنه لم يخلص لمدرسة واحدة ما أضعف، نسبيا، حضوره كفنان طليعي مثل صعوده بعد عام 1968 الحراك الفني والثقافي والفلسفي الذي كانت تعيشه العاصمة الفرنسية. مع هذا، فإن الأسلوب الذي يعتمده من خلال وضع الفن التشكيلي في مقام الديكور، جعل منه فنانا عاديا مع لمسة خاصة، وهو الأمر الذي على الأرجح ساهم، فعليا، في إبقائه، منزويا، وغير معروف كثيرا كواحد من أبرز الأسماء الطليعية في فرنسا.

تبدو لوحة بوليه الانطباعية، فريدة للوهلة الأولى، لكن هذا الانطباع سرعان ما يزول حين تتم المقارنة مع الأعمال الأكثر أصالة في انتمائها للانطباعية. فجل أعماله، لا تظهر وكأنها تحمل بصمة أو فرادة معينة، خصوصا أنها من النوع الذي تمتلئ به المتاجر التي تبيع الفن الرخيص. هنا لا يمكن معرفة من نقل عن الآخر. هل بوليه نقل عن الآخرين أم أن الآخرين نقلوا عنه. تحيلنا السيرة الفنية لبوليه إلى أن الآخرين هم من قلدوه. لكن مع ذلك فإن هذا التقليد لم يكن لمصلحته أبدا. إذ أن الفارق، حتى على مستوى السعر الذي يحدده للوحة لا يكاد يختلف عن الآخرين بشيء، ما يعني أن الفرادة اختفت ولم يبق سوى الحرفة والمهنية العالية التي لا يمكن بأي حال اكتشافها بسهولة.

غير أن الجانب المهم من هذا المعرض، هو الكم الهائل من الأسفار التي قام بها وأنتج من خلالها أعمالا كثيرة تتسم بقدرة بوليه على اصطياد التيمات الأساسية للبلاد التي زارها. وربما هذا الجانب هو ما يشفع للفنان الذي ينقل المشاهد التي رآها في رحلاته فتبدو هذه المناظر أداة وحيدة وفريدة للتعرف على الآخر البعيد.

على أي حال، فإن بوليه الذي، ربما، ظلم نفسه بعدم إخلاصه لمدرسة واحدة، ينتج من خلال تقنيات عالية ومهنية قل نظيرها اليوم أعمالا، تمثل جوهر الانحراف الكبير الذي شهدته المدرسة الانطباعية في النصف الثاني من القرن العشرين.